الشافعي.. ليس فقط فقيهاً كبيراً.. بل وفيلسوفاً رائداً.. جرّب الأشياء وقدم الحكمة في كلماته وشعره ونثره.. لذلك ليس غريباً أن تراه مبتعثاً لأمريكا.. فربّما أسس هناك مذهبه الأجد.. ليضاف لمذهبه القديم ومذهبه الجديد.. ففقهه في العراق يختلف عن فقهه في مصر.. وعن دراسته ومذاكراته في الحجاز.
لو كان الشافعي مبتعثاً لأمريكا لقدّم حزمة جديدة من الفقه الآخر، الفقه المرتبط بالأقليات وأسس مدرسته المرتبطة بالناس والمجتمع وشكّل حوله تلاميذه المعهودون ولكن على طريقة الفقه الفريد المرتبط بالحالة الغربية ووضع المسلمين هناك.
وليس غريباً على الشافعي أن يرحّب بهذا الابتعاث ويقدّره ويدعو إليه لأنه يحب السفر والضرب في الأرض، ويرى ضمن المنهجية المشهورة عند أقرانه ومعاصريه أن (الرحلة في طلب العلم) أمر في غاية الأهمية ليس لأجل كسب العلم المجرد والسند العالي فحسب.. بل كسب الخبرة ومعرفة القوم ودراسة حال الناس ومعرفة البلدان.. وتطبيقاً لأمر الله في الضرب في الأرض والنظر في هذا الكون والتفكر فيه وفي أحوال أهله وناسه وأقوامه، وتطبيقاً لقيمة التعارف التي ذكرها القرآن: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (13) سورة الحجرات.
الشافعي لن يعدم في أمريكا مجالاً للنظر والاستدلال والقراءة والمعرفة والمشاركة في المجتمع ومع الناس، فهو من المباركين الذين حيثما وقعوا نفعوا.. فهو لو كان هنا (في أمريكا) لانخرط مع الناس وأقام معاني العدل والحق في نفسه وسعى لإقامتها في الناس.. ولدافع عن كل ذي حق، وحاول الانخراط والتأثير والنفع والدفاع عن القضايا العادلة كماهو مذهبه ورأيه وطريقته. ولربما شارك كل ذلك بتفاعل لتاسيس مذهبه الأجدّ المختلف عن المذهب القديم والجديد في صناعة معالم الفقه والتأثير وتأسيس دورٍ فاعلٍ للمسلمين في العالم الغربي، ودعم كل ذلك بالمصالح العامة والقيم الشرعية المرعية والمقاصد الكبرى المعتبرة. وكل ذلك كان منسجماً مع حب الشافعي للسفر والترحال والضرب في الأرض والتبصر في أحوال الناس والأقوام والشعوب.. فينسب له الكثير من القصائد في هذا الشأن:
ما في المقام لذي عقل وذي أدب
من راحة فدع الأوطان واغتربِ
سافر تجد عوضا عمن تفارقه
وانْصَبْ فإن لذيذ العيش في النَّصبِ
إني رأيت ركود الماء يفسده
إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطبِ
والأسد لولا فراق الغاب ما افترست
والسهم لولا فراق القوس لم يصبِ
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة
لملَّها الناس من عجم ومن عربِ
والتِّبرُ كالتُّـرب مُلقى في أماكنه
والعود في أرضه نوع من الحطبِ
فإن تغرّب هذا عَزّ مطلبه
وإن تغرب ذاك عزّ كالذهبِ
وهكذا طارت أبياته في الركبان.. وسارت سيرة فصاحته وقصائده.. فنسب إليه كل شعرٍ فصيح مملوءٍ بالحكمة فهو العربي الذي عاش بين أفصح العرب وهو المطّلبي الذي ولد لخير الناس من بني هاشم الذين شرفهم الله بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ويقال إن الشافعي كان قد مرّ على الملحقية في أمريكا لقضاء شأنه ويقال إن أبياته الشهيرة قالها فيهم. وأبياته رحمه الله تقول:
لَقَلْعُ ضِرْسٍ وَضَرْبُ حَبْسِ
ونزعُ نفسٍ وردُّ أمسِ
وَقَرُّ بَرْدٍ وَقَوْدُ فرْدِ
ودبغُ جلدٍ يغير شمسِ
وأكلُ ضبَّ وصيدُ ذبُّ
وصرفُ حبَّ بأرضِ خرسِ
ونفخُ نارٍ وحملَ عارٍ
وبيعُ دارٍ بربعِ فلس
وبيعُ خفَّ وعدمُ إلفِ
وضربُ إلفٍ بحبلِ قلسِ
أهونُ من وقفة الحرِّ
يرجو نوالاً ببابِ نحسِ