من يرى العنف اللفظي في التعامل والحديث ووسائل التواصل الاجتماعي، وفي تعليقات الناس في الشرق العربي وردود أفعالهم، يظن أن أسباب التوتر بنيوية في هؤلاء الناس، ولا يستطيعون التخلص منها، لأن دواعيها بيولوجية وموروثة في جيناتهم.
لكن التاريخ القريب والبعيد يشهد أن التباس المفاهيم الفردية والجمعية لدى الشرقيين ليست قليلة الحدوث في كثير من الكيانات التي أطلقوا عليها مصطلح «الدولة».
فهم يظنون أن حدود الدولة ومظانها، حيث تخدمهم وتيسّر أمورهم. فما أن يجتمع أناس في بقعة جغرافية محددة، حتى يطلقوا على كيانهم دولة؛ ظناً منهم أن استقلاليتهم هي ما يجلب لهم الانتماء إلى مفهوم «الدولة»، ويحقق لهم بالتالي المصالح التي يرجونها من خلال ذلك المسعى، بغض النظر عن وجود المؤسسات أو شروط الحد الأدنى لمثل هذا الكيان.
وعندما تكون السلطات المهيمنة عاجزة عن فرض المنطق الذي يحد من فوران العنف من خلال القوانين المنظمة لحياة الناس وعلاقات بعضهم ببعض؛ وكذلك الأطر الاجتماعية عاجزة عن صناعة المناهل المتعددة للتداول العقلاني، فإن منافذ العنف والإقصاء تستشري في طبقات المجتمع المختلفة. وكان الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط قد حدد فكرة السلم الاجتماعي الدائم في محاوره الثلاثة: التطلعات الخارجية للمجتمعات، والسيادة الداخلية للدول، وتحوّل العلاقات الدولية؛ مع كل ما يتصل بها من آثار معيارية في مستوى سياسة القوة بدلالاتها الكلاسيكية.
ففيما يخص المحور الأول كان تصور كانط لتحالف الشعوب الدائم ضمن إطار سيادة الدول عصياً على التحقق، لذا كان لا بد من إعطائه البعد المؤسسي الملزم على حساب سيادة الدول على الأقل في حد أدنى هو فرض احترام القانون. وهو ما يعني الجمع بين الطابع الخارجي للعلاقات الدولية (الروابط التعاقدية بين الدول بوصفها كيانات تتمتع بالسيادة) والطابع الداخلي بين أعضاء الائتلاف الدولي القائم على ضوابط دستورية مشتركة؛ تسوغ في بعض الظروف تجاوز مبدأ السيادة الخارجية في حالات العدوان والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان.
وبشأن المحور الثاني المتعلق بالسيادة الداخلية أرجع كانط كل حالة قانونية إلى الحقوق الأصلية للإنسان خارج أي تحديدات سيادية للدولة، مما أوقعه في تناقض واضح بين مبدأ الحرية الفردية وفكرة إخضاع الذاتية الفردية لسيادة الدولة.
وفيما يخص المحور الثالث المتعلق بالهيكلة الجديدة للمجتمع العالمي، التي تراجع فيها مبدأ السيادة من حيث القوة المعيارية؛ يمكن القول إن العالم يعيش «وضعاً انتقالياً» بين قوانين الدول والقوانين العالمية. فإذا كان كانط قد تخيل ائتلاف الدول الحرة في شكل تجمع عدد متزايد من الدول حول محور طلائعي من الدول المسالمة، فإن النظام العالمي تشكل في الواقع من كل البلدان بصرف النظر عن طبيعة مسلكها السياسي في الحكم، مما أفرز «مجتمعاً عالمياً» وحّدته السوق المعولمة وتقنيات الاتصال؛ لكن ضمن هيكلة تراتبية تعمق الفوارق التنموية بين بلدان العالم؛ لكنها في الآن نفسه تفرض عليها التعاون في مواجهة مخاطر مشتركة. منها ما ينجم عن اختلالات البيئة والتفاوت الاقتصادي، وتجارة السلاح والمخدرات والإرهاب، مما يسمح بالرهان على أن عولمة هذه المخاطر تكرس موضوعياً واقع «المجموعة غير الإرادية» المؤسسة على مخاوف وتهديدات جماعية.
ما الذي ينطبق من ذلك على الفكر العربي؟ لا أظن ذلك وارداً في مخيلة العرب، ولا يمثل مطلقاً همّاً مقلقاً لهم؛ فكل ما يريده أغلب العرب هو إيجاد الإطار الذي يعتقدون من خلاله أنهم مساوون لفئات المجتمعات الأخرى. وهم في هذا لا يفرقون بين «دولة» و«سلطة» و«حكومة»، لأن ما يعنيهم في المقام الأول هو التماهي مع الخط الهرمي لتحقيق مصالح شخصية!