هل نستطيع القول بسهولة إن النخبة سقطت وأن الشعبوي بدأ نجمه يصعد، وهل إذا كان مفهوم الشعب معروفاً يصبح بالضرورة مفهوم النخبة معروفا ومحددا، وهل لاختلاف الثقافات والحضارات أثر في تعدد مفهوم النخبة، وكيف نقيس ذلك في ثقافتنا « اللاموقعية» في ظل مفاهيم (العامة، الخاصة، أهل الحل والعقد، أولي الأمر، الروبيضة).
إن مفهوم النخبة ليس مفهوماً قيمياً إذ إن النخبة قد ترتبط بأحط وأكثر فئات المجتمع استغلالا للفئات الأخرى، وقد قامت الديمقراطية بوضع إجراءات ملموسة لمحاربة التعنصر النخبوي قدر الإمكان واحترام المساواة بين الناس التي تتيح لكل إنسان أن يمارس إنسانيته وحريته ويحافظ على كرامته، وبذلك استطاعت وضع شعارات وتوجيهات دينية فضفاضة موضع التطبيق الصارم، ولكن مفهوم النخبة استمر بطريقة أو بأخرى ليشير إلى الطبقة التي تستطيع التأثير في القرارت المفصلية دون غيرها ولكنها في الأنظمة الديمقراطية تخضع للمحاسبة الشديدة وعلى ذلك تختلف النخبة حسب الإيديولوجيا أو المنهج الذي يرتضيه الناس بينهم.
وعلى ذلك فإن مفهوم النخبة يطلق هنا على (أولي الأمر، أهل الحل والعقد، وبعض الخاصة) هؤلاء الذي بإمكانهم التأثير في القرارات المفصلية أو اتخاذها في حين يطلق على ما يضاد هؤلاء (العامة، والرويبضة) وينظر إلى الطرف الأخير من خلال تراكمات دينية ومذهبية واجتماعية نظرة دونية، ولكن الأخطر أن الوضع الصحوي الذي مازالت قواعده أمتن القواعد ومازال يتحكم في التوجيه الذهني ينظر في معادلة (نخبة/ شعب) من خلال أن علماء الدين بل فئة محددة من علماء الدين بصفتهم أنهم وحدهم بيدهم كل الأمور أما الآخرون فيطلق عليهم المصطلح القدحي الانتقاصي (رويبضة)، وقد أخذوا هذا المصطلح من حديث.
«سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب و يكذب فيها الصادق و يؤتمن فيها الخائن و يخون فيها الأمين و ينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟
قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة» وقد روي هذا الحديث بألفاظ متعددة وكل المختصون في التتبع الإسنادي للحديث يرون ضعفه، أما زيادة تفسير الروبيضة فقد وردت كالتالي: السفية ينطق في أمر العامة، وسفلة الناس، والفويسق يتكلم في أمر العامة، والفاسق يتكلم في أمر العامة، ومن لا يؤبه له، والرجل التافه يتكلم في أمر العامة، والوضيع من الناس.
ويرى بعض الباحثين (انظر ملتقى أهل الحديث) أن هذه التعريفات السبع للرويبضة وردت في الرواية، مما يدل على عدم ضبط لفظها، وكلها ضعيف لا يصح منها شيء، ومعانيها متخالفة متضادة ؛ فإن :من لا يؤبه له ليس بالضرورة أن يكون من الفساق، بل وردت أحاديث في مدح هذا الصنف الخفي الغني التقي، وهذا غير المراد من التعريفات الأخرى مثل قوله الفاسق، الفويسق، الوضيع...الخ. فإن المراد منها الذم، والتحذير من هذا الصنف. ومع ذلك فإن النظر إلى بقية الناس بأنهم (رويبضات) سواء من الناس العاديين الذي لهم حرمتهم ومكانتهم بتكريم الله أم غير العاديين مهما كانت تخصصاتهم العلمية ومهما حازوا من التميز والشهادات ومهما بلغت معرفتهم وعلمهم التخصصي غير علماء محددين لمذهب معين يظل محركاً أساسياً في التصنيف الصحوي للناس ومازال مفهوماً إجرائيا عنصرياً الهدف منه سلب الناس إنسانيتهم وحقوقهم في الكرامة والتساوي والمشاركة في بناء حاضرهم ومستقبلهم وقطع كل حوار واستلاب الناس الكهنوتي لصالح فئة محددة منتفعة ولصالح من ينتفع مع تلك الفئة، ويبدو أن ذلك قد بدأ مبكرا من خلال الصراع الإيديولوجي على السلطة.
غير أن جميع المفاهيم التي دارت حول (النخبة والشعب) سواء في مجتمعات ثيوقراطية دينية أم في مجتمعات غير ديمقراطية وغير ليبيرالية بدأت في التلاشي والاضمحلال فبقوة التقنية اللبيرالية من خلال وسائل التواصل الليبرالي المعمولة لتتوافق مع نمط التفكير والحياة الليبرالي والتي ليس من الممكن الحد من تواصليتها أصبح الناس يعيشون بمفاهيم ليبيرالية متقاربة حتى إن لم يكونوا ليبراليين وجعل ذلك بقايا الدكتاتورية في العالم تختنق اختناقا بطئيا بل تتحول بعضها مرغمة إلى دكتاتورية ليبرالية!
إن المواطنين في العالم أجمع باتوا يعيشون النمط الغربي اللبيرالي في مجال نمط المعيشة وفي مجال الاستهلاك الذي يزيد من توحيد نمط المعيشة ونمط التفكير بل إن التمايز بين الأغنياء والفقراء والحكام والمحكومين يظل يتقلص لصالح التقارب في الإنسانية والتقارب في استعمال التواصل والتقارب في نمط الحياة الموحد المائل إلى البساطة والاستمتاع بالحرية وبمباهج الحياة. وأظن العالم كله الآن يعيش ليبرالية إما بالاختيار وإما بالقوة الكامنة في الاكتساح لكل ما هو لا يتوافق مع النمط الليبرالي الذي هو مجرد منهج وليس دين كما تحاول دون جدوى فئة إيقاف زحفه وتشويهه.
في هذا النمط الموحد قد يظهر مفهوم «الإصدار» كبديل لكل المفاهيم السابقة في تصنيف الوضع الاجتماعي للناس فما عاد الناس إلا تطورات تتشابه مع تطورات وسائلهم التواصلية والمعيشية والحضارية ،وليصبح تصنيف الإنسان خاضعا للنقلات الكبرى في أدواته التي يستعملها وليس من خلال التراكم الفكري والصراع الإيديولوجي، فالناس الآن يمارسون (ممارسة) قيماً متشابهة، وليست المشكلات التي تظهر بين آونة وأخرى إلا بسبب أن بعض الناس لم يستوعب ذلك حتى الآن فالوضع أن العالم كله أصبح ديمقراطياً ليبيرالياً بغض النظر عن دياناته وثقافته رضي من رضي وأبى من أبى، فالنقلات التقنية (الإصدارية) لها حركة كحركة الشطرنج التي تؤثر في الفكر أما الفكر فتتلخص مهمته في كونه تمهيدا لحركة وليس حركة، هو سكون إلى أن تحركة النقلة التقنية، ولذا فقد سقطت النخبة وسقط الشعبوي في مقابل الإصدار وسيكون هنالك إصدار ثالث من الإنسان وإصدار رابع وهكذا ففي مقال مارينا مايستروتي (هل التفرد التكنولوجي طريق إلى ما بعد الإنسان) الذي ترجمه محمد أسليم تطرح أنه في غضون ثلاثين عاماً سيمتلك البشر تكونولجيات ضرورية لخلق ذكاءات بشرية خارقة ويرى بعض المستقبليين أن ذلك سيؤدي إلى لحظة يسمونها (التفرد) حيث يتجاوز الذكاء الاصطناعي القدرات البشرية وحيث يؤدي كما يذهب راي كوروزيل إلى التعقيد المستمر والتطور المطرد للعلاقات بين البشر والتكنولوجيا بحيث يمضيان في خط تلاق نحو نقطة اللاعودة أي نحو قطيعة عميقة و(تفرد) سيحدد مرحلة جديدة من التأريخ ويتوقع بعض علماء المستقبليات وقوع التفرد ما بين 2005 و 2030 وسوف يكون التحدي الرئيس في زمن التفرد هو مراجعة أفكارنا حول الطبيعة الإنسانية ورسم المؤسسات الإنسانية بلغة أكثر معلوماتية ويتعلق الأمر حينئذ بالانتقال من الإصدار 1.0 من الكائن البشري إلى الإصدار 2.0 وستكون الجهات الفاعلة في هذا التحول هي الروبوتات الدقيقة أو النانوية التي ستنتشر في عروقنا وشراييننا ويمكن على سبيل المثال الوصول إلى كائن بلا قلب ولا رئتين عن طريق استبدالهما بتلك الروبوتات. .. ولذا فالمتوقع أن نكون ابتداء من 2030 كائنات غير بيولوجية أكثر بكثير مما سنكون مخلوقات بيولوجية أما الإصدار 3.0 من البشر فيتوقع كوروزيل صدروه ما بين 2030 و 2040 وسيكون ذلك الإصدار مراجعة كلية للمشروع الإنساني. .. ومهما بالغ الخيال العلمي في تصوير المستقبل فإن كثيرا ما توقعه سيقع لا محالة مثلما وقعت بفضل التقدم العلمي أمور لا يمكن حتى تخيل وقوعها عند الإنسان القديم.
وأكثر ما يهمنا نحن أن مسألة الإصدار هي نهاية (التصنيفات) بيد أن نقل هذه الفكرة إلى المجال الفكري والسيسيولوجي يلزم منه أن فكرة الإصدار قد بدأت مبكرا بدأت بالفعل بعد انهيار جدار برلين في أوائل التسعينات وبدأ يظهر الإصدار الثاني من الإنسان منذئذ لتتوالى الإصدارات التي تعتمد بالضرورة على هذا الإصدار، وتوالت بعد ذلك عدد من الإصدارات الصغيرة التي هي أشبه ببروفات (تجارب مسبقة) و التي تواكبت مع نقلات التكونولوجيا وكان هدفها تعميم الإصدار الثاني من الإنسان أما ما ننتظره بعد ذلك فهو بقية الإصدارات التي يتوقعها المستقبليون فيما بعد 2030.
والخلاصة أن العالم بدأ في الحد من جدلية التناقضات الاجتماعية بكافة إشكالها وبدأنا بتزبيل الإيديولوجيا للانتقال إلى عصر «الإصدار» الذي قضى على النخبوي وعلى الشعبوي وصار البشر يعملون في إطار حركة الإصدار وما يسمح به ظهور الإصدار من اختلاف أو قيم.