لقد انشغل أفلاطون بالجمال والخير، فكانت غالب جهوده بحثًا دائمًا عن كل ما هو حق وجميل وخيّر إلى الأبد.. واهتم بالعلاقة والمقارنة بين الأزليات الثابتة غير الفانية من ناحية، والآنيّات المحسوسة الزائلة من ناحية ثانية.. وقرّر أن كل محسوس قابل للتحوّل، يتغيّر بتغيّر الزمن وتأثيراته المختلفة؛ ونهايته إلى زوال وفناء وتراجع، مهما طال به الوقت على حالة معينة.. بعكس كل الأشياء في العالم المعقول، التي تخلق في قوالب غير آنية، فهي غير قابلة للفناء.
تعرَّف على سقراط وعمره أربعة عشر عامًا، وأصبح من تلاميذ حلقته عندما بلغ العشرين. وتأثر كثيرًا بإعدام أو انتحار شيخه سقراط بتجرّعه كأس السم مع قدرته على الهرب، كما ثبت لنا من كثير من مصادر هذه القصة الشهيرة.
لقد أثر ذلك على أفلاطون كثيرًا بل هو -بلا مبالغة- السبب الحاسم الذي حوّل حياته، فاتجه إلى الترحال كغيره من طلاب سقراط، فمر وتنقل بين مدن كثيرة، وكون كثيرًا من تصوراته السياسية من خلال هذه الرحلات واحتكاكه بعدد من الحكام والسياسيين. لقد تأثر تأثرًا شديدًا بموت معلمه بهذه الطريقة، فقرر في مقولة نسيتها -تنسب إليه وإلى غيره من تلاميذ سقراط- وخلاصتها أنه قرَّر أن لا يتواصل ولا يخاطب العامة إلا بالقلم، وأن لا يحتك بهم كثيرًا بشكل مباشر؛ لكثرة المشاكل التي تنتج عن الإفراط في التعامل المباشر معهم.
إن العدالة التي يدور حولها أفلاطون دائمًا: هي عنده سلامة الروح، وهي أيضًا عنده نوع من النظام الثابت.. وهي فضيلة جوهرية في الأصل، تشمل كثيرًا من الأهداف والاحتياجات، ولكنها تجمع كل فضائل الإنسان الأخرى مع بعضها البعض في علاقة محددة.
وفي الكتاب الثاني من الدولة ينقل فكرته عن العدالة -كنظام للروح الإنسانية- إلى المجتمع. والعدالة عنده مرتبطة بالاستقرار دائمًا وأبدًا، ومبدأ العدالة عند أفلاطون يعني -باختصار- أن: على كل واحد أن يقوم بدوره، أي أن يشغل كل إنسان المكان المخصص له بالطريقة المحددة.. ومن هنا تبنى أفلاطون مبدأ تقسيم العمل، كعادته في عشق التقسيم، فالبشر يختلفون عن بعضهم في القدرات، ويتفاوتون في المواهب والإمكانات, والفرد يبدع ويتحسن ويزيد إنتاجه وعطاؤه إذا عمل في القسم أو المجال المتوافق مع استعداده الطبيعي.
ونستطيع من خلال الفقرة السابقة الدخول إلى تقسيم أفلاطوني آخر، وهو «الطبقية» التي نادى بها صاحبنا أفلاطون وفق صورة معينة، فقد قسّم المجتمع من خلال رغبته في ربط وظائف الدولة ببعضها من ناحية، ومن خلال فكرة العدالة وتقسيم العمل وفق القدرات من ناحية ثانية.. فجاء المجتمع في رؤيته على ثلاث طبقات: طبقة الحكام الفلاسفة، الذين يديرون الدولة بالحكمة.. ثم الطبقة العسكرية المحاربة، التي تدافع عن الدولة وتحميها.. ثم تأتي الطبقة الأخيرة، ويدخل فيها غالب الشعب، من أصحاب المهن والحرف المختلفة، الزراعة والتجارة والصناعة... وغيرها.
يرى البعض أن الدول تنشأ بالقوة وحب السلطة وما شابه ذلك، ولكن أفلاطون لم يشر إلى ذلك، فالدولة تنشأ -أو يجب أن تنشأ برأيه- لإشباع حاجات الناس المختلفة، وخاصة المادية الاقتصادية؛ فهي ضرورة لتنظيم تبادل الخدمات بين الناس؛ لأن الفرد لا يستطيع سد حاجاته بنفسه، ولا تنظيم علاقاته مع الآخرين لسد هذه الحاجات الملحة، إلا في دولة منظمة عادلة، قادرة على حماية نفسها أولاً، وحماية حقوق أفراد الشعب الذين يتعاونون داخلها لإشباع وسد حاجاتهم المتعددة المتباينة.
ولا يمكن أن نتجاهل الأكاديمية العريقة، التي أسسها أفلاطون عام 387 ق.م، فهو أول من أنشأ أكاديمية في التاريخ، وسمّاها (أكاديموس) ومنها ظهرت كلمة أكاديمي، التي ما زالت تستخدم حتى اليوم على نطاق واسع.
واصل من خلال أكاديميته تعميق تصوراته السياسية، التي رسمتْ صورة لمجتمع مثالي جميل، يتم فيه وضع الحدود بين الحكام والمحكومين بوضوح، ووضع السلطة على مبادئ ثابتة، وليس على التقاليد. إنه المجتمع الذي تحكمه الصفوة؛ ليس صفوة الطغاة، بل صفوة العقلاء والحكماء والفلاسفة.