من اللافت ألا تنهمر أقلام العديد من كتاب العرب وتفيض مسطِّرة أعمالاً أدبية غاية في الروعة، تدور في رحى شهر كل ما فيه ينطق بالتغيير، ويتمرد على السائد، وينحو باتجاه كسر رتابة الحياة!
وأعني بذلك شهر رمضان الكريم، الضيف المقبل علينا. فالليالي المفعمة بالأجواء الروحانية الساحرة، والتراث الشعبي العبق الذي تسربه عادات باتت عصية على المحو، والنهار الناطق بالمشاعر الفياضة الناجمة عن الإمساك عن الطعام والشراب، وصلة الرحم والتواد والتواصل بين الأهل والأصحاب والجيران وما ينجم عن ذلك كله من راحة وسكينة فريدة للنفس.. كل هذا يبدو من اللافت ألا يكون محرضاً لاجتراح ألوان من الكتابة الإبداعية.
فرغم حضور هذا الشهر بقوة في حياتنا الدينية والروحية وتراثنا الإنساني بكل حمولات شعائره وطقوسه، وعاداته الاجتماعية، لكنك لو فتشت مثلاً بين أرفف المكتبة السعودية تكاد لا تجد عملاً روائياً جيداً يُعنى بالبُعد الزماني أو الجمالي أو الروحاني لهذا الشهر، أو يرصد عادات وتقاليد الناس الغنية والمتنوعة، التي طالما ترافقت مع قدومه، حاملة أبعاداً تراثية وجمالية ودرامية مثيرة للدهشة؛ ما يجعلها خامة مثالية لاجتراح أنواع من الإبداع. ومن ذلك - على سبيل المثال لا الحصر - عادة إشعال النار في أسطح المنازل وعلى قمم الجبال في منطقة عسير، في إشارة إلى ثبوت الهلال وحلول الشهر الفضيل.
إضافة إلى ثراء هذا الشهر بالشخصيات البسيطة والمركبة، منها المسحراتي، الشخصية التي لم تقتصر وظيفتها في السابق فقط على إيقاظ النيام لتناول وجبة السحور، إنما أيضاً امتدت لزرع شتائل الفرح في صدور الصغار الذين كانوا يحرصون في الماضي على الاستيقاظ في موعد قدومه؛ لتنعم الفتيات الصغيرات بإلقاء نظرة عليه وهو يردد أهازيجه من على عتبة الباب أو عبر النافذة، فيما يتجمع حوله الصبية سائرين خلفه في الأزقة والحارات. إضافة إلى إمكانية رصد التغيرات التي طرأت على بعض عاداتنا الرمضانية من خلال الأعمال الإبداعية.
فالكتابة حول تفاصيل حياة الناس اللصيقة وهمومهم الحقيقية وسعاداتهم الصغيرة هي ما تحرض عادة على قراءة المنتج، وتسهم في خلق شعبية للمؤلف. وقد نجح الروائي المصري نجيب محفوظ في توظيف حياة الناس ورصد همومهم وتطلعاتهم وأحلامهم البسيطة في أعمال روائية، خلقت له شعبية عالية، وأوصلته كأول روائي عربي لجائزة نوبل.
وكان حضور رمضان في رواياته وحكاياته التي يسردها في لقاءاته عبر الإذاعة ثيمة محببة للنفس. ولم يفت محفوظ الذي عرف بذكائه في اقتناص مكونات البيئة الزمانية والمكانية الإفادة من ثراء بيئة شهر رمضان المبارك لرصد العديد من المظاهر الاجتماعية والعادات المصرية المترافقة معه منذ ظهور هلاله، وموائده الزاخرة بأطايب الطعام، وتحضيرات الناس له، وفرحهم بقدومه، عبر روايته «خان الخليلي»، التي تروي حكاية أسرة مصرية من الطبقة المتوسطة، تضطر خلال غارات ألمانيا على مصر أثناء الحرب العالمية الثانية عام 1942م للانتقال إلى خان الخليلي في حي الحسين الشعبي المفعم بصور الحياة النابضة؛ إذ تصل الأسرة إلى الحي الجديد قبل رمضان بأيام، وخلال مجريات أحداث الرواية ينقل محفوظ قارئه لأجواء رمضان الساحرة. كما حضر رمضان أيضاً عبر ثلاثية محفوظ الروائية.
وحضر أيضاً في أعمال يحيى حقي ويوسف إدريس، وكذلك إحسان عبد القدوس كبيئة زمانية تدور فيها أحداث روايته المعروفة «في بيتنا رجل»، التي تنسج أحداثها حول الكفاح الوطني والصراع بين الخير والشر والفضيلة والرذيلة عبر أحداث تتداخل فيها القضايا العامة بتفاصيل حياة إحدى عائلات الطبقة المتوسطة. وقد تناولت الرواية عادات المصريين في هذا الشهر وأعرافهم.
كما حضر شهر رمضان أيضاً في رواية «مد الموج» للكاتب محمد جبريل، الذي مزج من خلالها بين الواقعي والمتخيل، من خلال عرض أقرب للسيرة الذاتية، يرتكز على سرد الذكريات الخاصة برمضان، مثل ليلة رؤية الهلال وفانوس رمضان وأصدقاء السمر في الإسكندرية خلال حقبة الأربعينيات. إضافة إلى وجود العديد من الروايات المصرية التي تناولت حرب أكتوبر، وفيها ظهر رمضان بشكل أو آخر، كما في أعمال عبدالمنعم شلبي وسمير عبدالفتاح وجمال الغيطاني.
وفي قصة «مريم» للكاتبة المصرية الراحلة نعمات البحيري نجدها أفادت من شهر رمضان بشكل جيد في حبكتها السردية لإظهار التمايز الطبقي في المجتمع عبر توافر الطعام لدى أسر دون أخرى. وفي رواية «أيام الإنسان السبعة» لعبدالحكيم قاسم، التي تدور أحداثها في القرية المصرية، وتتناول حياة الدراويش والفلاحين الفقراء الذين يقضون نهارهم في الحقول، وفي المساء ينغمسون في الذكر والإنشاد بعد أداء الصلاة؛ إذ يحضر رمضان بأجوائه الروحانية الساحرة خلال تفاصيلها أيضاً.
وفي الرواية اليمنية تعتبر رواية «الرهينة»، التي جاء فيها ذكر رمضان كبيئة زمانية، من أشهر الروايات في اليمن، وواحدة من أهم 100 رواية عربية خلال القرن العشرين، حسب استطلاعات اتحاد الأدباء والكتاب المصريين عام 2000م.
ومن مقاطعها: «شغلتني أوامر الشريفة حفصة طوال أيام شهر رمضان بنقل رسائلها إلى سامر مداوم في ديوان النائب. لم أعرفه من قبل، وإن كنت قد لمحت صورته في إحدى المناسبات الخاصة أو العامة». ومقطع «قلت لصاحبي ذات ليلة من ليالي رمضان ونحن نشعل (الاتاريك) استعداداً لسهرة القصر وملحقاته..». وقد تمكَّن مؤلفها زيد دماج من التعبير من خلالها بصدق عن هموم ومعاناة الشعب اليمني في حقبة زمانية سابقة.
لكن هذا التناول الرمضاني السردي الجميل أخذ في الاختفاء - للأسف - شيئاً فشيئاً عن أجواء الرواية العربية بشكل عام. ويُرجع البعض سبب هذا الغياب اللافت للمواسم الدينية مثل رمضان والحج في التجربة الروائية العربية بشكل عام، وبخاصة في السنوات الأخيرة، إلى التوجُّه الصارخ نحو التجربة الكتابية الإبداعية الذاتية، التي لا تتناول في الغالب المظاهر الاجتماعية إلا فيما يتقاطع مع الذات؛ ما أدى إلى اختفاء مظاهر اجتماعية وفلكلورية عدة عن منجزنا، التي رغم غناها لم تعد تحضر في التجربة الإبداعية إلا - للأسف - بشكل عارض وخاطف.