«الحبُّ طفلٌ لا تمرّ بهِ السنينْ.
الحبُّ أوطانٌ لأهلٍ طيبينْ
والحبُّ كرهُ الغاصبينْ
الحبُّ نخلُ اللهِ
راحةُ كادحِين ومتعبينْ.»*
السلامُ عليك يا ابنة الأكرمين، سلامٌ على الأرضِ والأهلِ والطيبين.
أكتبُ لك صباح اليوم فأنتِ تتجولين في خاطري بجمالكِ كما تتجولين في مرآتك كلّ صباح، أذكُرك بالحب والخير، كما أذكر جمال أهلي وأوطاني، أوطاني التي أحب، وأوطاني التي تُتعب، وأوطاني التي حتى لو اغتربتْ لا تبرح القلب. وتعلمين، ومن غيرك يعلم ما يشغل حالي وبالي، وأنني عندما أتحدث عن الأوطان أتحدث عن الأهل في الأوطان، عن الناس وما يهم الناس، وما يأمل به الناس، وما يعانيه ويعنيه الناس، وأنني عندما أكتب عن الحب والمرأة والجمال، أكتبُ عن الأوطان وأكرّس الجمال بدل القبح، وأعكس حلمي بما ينبغي أن تنعم به هذه الأوطان. فترسيخ الخير والحق والحب والجمال، ونشر وتعليم كل ذلك، هو النضال الأساسي الأول، هو البناء الأول، وليس ذلك الذي يقود إلى معارك الطواحين، أو إلى المعارك الطاحنة بين الأهل عبر الأوطان، وفي الوطن الواحد، هذه الفوضى التي لا طائل منها.
المشاكل كثيرة في أوطاننا يا سيدتي، والأمن غائبٌ في أكثرها، والحدود واهية، والعصابات تتكاثر كالجراد والغربان، والقتل ينتشر كالطاعون.
فمن أين جاء كل هذا القتل، وأين يكمن الخلل؟!
ستقولين في الواقع، وعلينا تغيير الواقع، فهل غيرت الثورات المزعومة واقعاً، أم هل كرست واقعاً فوضوياً رديئاً خالياً من النظام والأمن، وخالياً من الفكر والثقافة، استغله الانتهازيون وقضوا على ما تبقى في دولهم من حجر وبناء وشجر.. وقضوا قبل ذلك على البشر، وعلى كل ما يشكل منظومة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو عسكرية أو أمنية أو تعليمية، قضوا على كل شيء، وأحلوا بدل ذلك الفوضى والدمار والموت.
لقد قضوا على الإنسان، وأخرجوا لنا وحوشاً ومسوخاً، يقتل ويأكل بعضها بعضاً إن لم تجد من تقتله!!
ومن أهم ما تلاحظينه، هو تحول الخطاب من العلماء والحكماء وأصحاب الفكر والرأي إلى الدهماء والحمقى والغوغاء، فأصبحت القطعان الهائجة بلا فكر أو عقل هي التي تريد تسيير الحياة، وأصبح كل من فتح حساباً في وسيلة تواصل يفتي، وينظّر، ولا بأس في أن تكون هناك آراء، بل من المفترض أن يفكر الناس، وأن يكون لديهم خطاب، ولكن أي خطاب هذا الذي يطغى على الفضاء الإعلامي؟! وما هي المفردات المستخدمة في الغالب، أليست مفردات الكراهية والسواد التي لا تشكل ظاهرة فقط، بل مصيبة تحل بالأوطان.
إنه، وتحت أعين دول ومنظمات وجماعات وتيارات، خطاب دموي، تفوح منه رائحة الدم والبارود، قوامه التفرقة والتجزئة والطائفية، خطاب حقد وكراهية وقبح.
خطابُ لا صلة له بدين قيّم، ولا بأخلاق ومثل سامية، ولا بقوانين وأمن ونظام.
خطاب فج يسهل على من لا يحسن التفكير، بل من لا يحسن القراءة والكتابة الدخول فيه، وسكب الزيت على ناره التي أشعلها عدميون متعمدون، وجاهلون متعالمون، مسيسين وغير مسيسين، أطراف معروفة وأضعافها مجهولة، كارهون للأوطان وللمجتمعات وللحياة وللسلام وللوئام، حاقدون يؤزهم السواد أزّاً.
ولعل من أبسط نتائج هذا الخطاب، وهذه الفوضى والفتن التالي:
1- تدمير مكتسبات الأوطان والأمة، وهدم بناها التحتية، وتدمير ونهب اقتصادها ومالها العام والخاص.
2- تجزئة وتفتيت الأوطان وتقسيمها وإنشاء أقاليم صغيرة بديلة تحكمها جماعات وعصابات، لا تلبث أن تقتتل فيما بينها.
3- تفكيك الوحدة الوطنية والاجتماعية عبر الطائفية والاثنية.
4- مسخ ومسح الهوية، وهدم النظام التعليمي، وتحييد اللغة العربية كما حدث في العراق مع الكردية والفارسية والتركية والإنجليزية.
5- إخراج المرأة، نصف المجتمع، من البناء الاجتماعي، والتعليمي والوظيفي.
وغير ذلك مما نراه قد ثبت في ليبيا والسودان والعراق، وكان مخططاً له في مصر وسورية ولبنان وتونس والجزائر وغيرها.
لكن النتيجة أو الهدف الأساس من كل ذلك، عبر المخطط الصهيوني - الأمريكي - الغربي، هو هدم هذه الأوطان وتسويتها بالقاع – الضربات الجوية والتدخل العسكري والتدريب والدعم العسكري - وجعلها بؤر لجماعات متعددة متنافرة حتى لو بدت متحدة في العناوين الكبيرة أحياناً، جماعات ناهبة لا تقدم للوطن أو للمواطن تعليماً أو علاجاً أو غذاء، ناهيك عن الأمن المفقود مع أول رصاصة انطلقت، ولعل في اليمن هنا مثال مأساوي يظهر كيف تتم صناعة الفوضى، وكيف يعتمد على خلط الأوراق حتى لا تعرف من يحارب من، ومن يحالف من، حتى لا تكون هناك دولة أو أمن أو نظام، وحتى لا يهدأ المواطنون ولا الجيران، لا يفكرون ولا ينعمون بأبسط وسائل البقاء على قيد الحياة، ولا العيش الكريم الآمن.
أيعقل أن الناس لا تعي هذا، أو جزءاً من هذا، وكل ما في هذا موتٌ ودمار؟!
آه يا سيدتي، لكن لا تنزعجي، ولا تكتئبي ولا تحزني، فدموعك غالية، وقد كان هاجسي في البدء أن أكتب لك عن قصيدتي « الحب «، عن « صُوَر» وعن ديوانيّ الأخيرين « جنان حنايا» ، و «طفولة قلب».
فقد قرأت هنا وهناك، بعض الكتابات التي توحي في مجملها بأنّ الحربي يأخذ إجازة من قضايا أمته ويكتبُ عن الطفولة والمرأة والحب في زمن التغيير والثورة والحرب.
وهذا كلامٌ متعجل مؤلم، وهذه العجلة في الحكم دون قراءة واعية، ومتابعة جادة، هي ما قادتنا وتقودنا إلى ما نحن فيه اليوم من مشاكل، هذه القراءات السهلة العجلة، تماماً مثل من يطالبون بتغيير رؤوس الحكم في هذا البلد أو ذاك، ولا يهمهم من يجيء، وهم يطلبون التغيير ولا يغيرون ما بأنفسهم، وينصحون جيرانهم قبل أهلهم، وأهلهم قبل أنفسهم، يغيرون الرأس ويتركون البدن المتعب، تعجبهم مفردة الثورة، والربيع، والتغيير، وهم أقرب إلى الاستكانة والخريف والثبات.
ومعظمهم لا يملكون قراءة واعية للماضي أو للحاضر، عجلون يفكرون في الآنيّ، أو ما يريدون عبر أهوائهم ورؤيتهم الضيقة التي تخدم أحزابهم أو تكتلاتهم الفئوية الصغيرة، يتحالفون مع الشيطان، لأنهم لا يبصرون النهايات، ولا يراجعون الاحتمالات، لا يسألون: ثم ماذا بعد ذلك أو هذا، لذلك يتهاوون ويسقطون في أول اختبار، ويكونون ضمن من يحترق بنار أخطاء التنظير عن بعد، من هناك، من المنافي الاختيارية، عبر قراءات بعيدة عقيمة، ونظريات جوفاء.
وهم في النهاية لا يعرفون معنى وقيمة الأمن، هم لا يعرفون شوارع الوطن، وهجير وظلال الوطن، ورجال ونساء الوطن، فكيف لهم أن يعرفوا قيمة ومعنى الجمال والحب!!
هم لا يعرفون أنّ:
« الحبّ من شجرٍ يصلّي
يستغيثً ويستعينْ.»
لأنهم يحرقون وينتزعون الأشجار، ويجرفون الحقول في أوطاننا بحجج الثورات، كما يفعل الإسرائيليون تماماً في فلسطين، مع الأهل والزيتون!!
** ** **
* المقاطع من قصيدة الحب - ديوان طفولة قلب للشاعر صاحب المقال.