عام (1384هـ) كنت قد اجتزت الدراسة الثانوية في (معهد الرياض العلمي) وكنت الأول على طلبة المعاهد العلمية جميعاً في ذلك العام وكان طريق الدراسة الجامعية أمامنا محدوداً في (كلية الشريعة) أو (كلية اللغة العربية) ولا ثالث لهما فكان أن سجلت في كلية اللغة العربية مخالفاً رغبة الوالد وأصدقائه الذين كانوا يقولون للوالد: (محمد - إن شاء الله سيكون مثل جده الشيخ حمد بن ربيّع)، ومع أني الأول على طلبة المعاهد وثقافتي الشرعية - آنذاك - متميزة، حيث قرأت كثيراً من الكتب والموسوعات الشرعية في المكتبة السعودية وغيرها، فإنه كان لدي إصرار على الالتحاق بكلية اللغة العربية والخيرة فيما اختاره الله.
في اليوم الأول من التحاقنا بكلية اللغة العربية جاء الطلبة من مختلف المعاهد العلمية، وفيهم المتميز وفيهم من هو دون ذلك علماً وثقافة، بعضهم انحصرت ثقافته في مقررات المعاهد العلمية فتفوق فيها ولم يخرج عنها، ومنهم من اتسعت معارفه بالقراءة الحرة والسفر، ومنهم من لم يكن مكتفياً بالدراسة في المعاهد العلمية فكان أن اتجه إلى الدراسة الليلية في المدارس المتوسطة والثانوية مما فتح لهم طريقا آخر للدراسة الجامعية. من بين هؤلاء الزملاء شاب جاء من معهد (بريدة) العلمي.
إنه الشاب إبراهيم الفوزان
شاب أنيق بهي الطلعة مرح مبتسم متفتح على الحياة حريص على التعارف والاندماج في المجتمع الجديد يتحلى بمواهب قيادية.
اقتربت منه ناقشته في أمور طرحت عليه مسائل حدثته بما لم أحدث به أحداً من القادمين من تلك المعاهد عرفت منه أنه قد سافر - وهو طالب في المرحلة الثانوية - إلى الشام وتركيا وجلب مجموعة من المخطوطات ومن الكتب التي لم يكن من السهولة الحصول عليها في ذلك الوقت.
تآلفت القلوب وقويت أواصر الصداقة والمحبة منذ ذلك التاريخ ولم تكدر على مر الأيام بخلاف أو (زعل) أو تنافر عاشت تلك الصداقة ما يقرب من نصف قرن، وأرجو أن تدوم إلى آخر يوم في حياتي وحياته وأن يرثها منا الأبناء والأحفاد.
طيلة سنوات الدراسة الجامعية الأربع كنا - نحن الطلبة - نقوم برحلات كثيرة إلى (البر) أو إلى مناطق المملكة، لم يكن هناك عمادة لشؤون الطلاب ولا تنظيم رسمي للرحلات بل كنا نحن ننظمها ونجمع تكاليفها (القطة) ونوزع المهام، فهذا يشتري الأغراض (المقاضي)، وذلك مسؤول عن (الطبخ)، وآخر مسؤول عن (الشاي والقهوة) وهكذا أما سيارة الرحلة فنستأجرها من (البطحاء).
كان إبراهيم الفوزان نجماً من نجوم الرحلات بحديثه العذب وقصصه المثيرة وابتسامته العذبة.
لم يكتف إبراهيم بذلك فكان يقيم وليمة سنوية لزملائه في الكلية رغم أنه يعيش (عزوبياً) في بيت في (الحلة) قريب من الكلية، لكن حبه لزملائه وما طبع عليه من كرم جعله يتخذ تلك الوليمة عادة سنوية.
-2-
أنهينا الدراسة الجامعية عام (1388هـ) وتفرقت بزملائنا السبل، فمنهم من اختارته (الرئاسة العامة للمعاهد والكليات) للتدريس في معاهدها العلمية المنتشرة في مدن المملكة، ومنهم من تمّ تحويله للتدريس في مدارس (وزارة المعارف) فكان أن عينت مدرساً في (معهد مكة المكرمة) العلمي، وعيّن صديقي إبراهيم الفوزان في (معهد الطائف) العلمي وبدأت مرحلة جديدة من العلاقة بين الصديقين اللذين انتقلا من مرحلة (الدراسة الجامعية ) إلى مرحلة ( التدريس في المعاهد العلمية).
لم أكن متزوجاً عندما ذهبت إلى مكة المكرمة للتدريس، ولم يكن إبراهيم متزوجاً عندما ذهب إلى الطائف، لكنه كان أكثر حظاً مني فسكن في (فلة) لعمه الشيخ (عبدالعزيز الفوزان) القاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة رحمه الله، أما أنا فقد سكنت في شقة صغيرة في شارع (اللصوص) في حي العتيبية بالقرب من معهد مكة المكرمة العلمي.
كانت الدراسة ستة أيام في الأسبوع إلا أن يوم الخميس تختصر الحصص الدراسية إلى أربع بدلاً من ست حصص، فكان إبراهيم يأتي إلى مكة عصر الخميس وربما صباح الجمعة فيذهب إلى منزل عمه ثم يأتي إليّ فنقضي وقتاً ممتعاً نتجاذب الأحاديث والأماني ونفكر في المستقبل، وربما ذهبنا إلى زملائنا في (جدة) وخرجنا إلى (أبحر) أو سهرنا عندهم سهرة ثقافية ماتعة تتخللها الكثير من المواقف الظريفة والتعليقات والنكات الخفيفة.
استمر هذا اللقاء عاماً دراسياً كاملاً انتقلت بعدها إلى الرياض عام (1389هـ) للتدريس في معهدها العلمي وبقي الفوزان في الطائف.
-3-
وفي تلك السنة الحافلة بالنشاط فكرنا في مواصلة الدراسات العليا في كلية اللغة العربية بجامعة (الأزهر) بالقاهرة، كان لدينا طموح لا حدّ له ولم تكن الدراسات العليا قد فتحت في الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية (نواة جامعة الإمام فيما بعد) ولم تكن المعاهد تبتعث أحداً للدراسة في الخارج فما كان منا إلاّ أن تقدمنا للدراسة في الأزهر وقبلنا في قسم (الأدب والنقد) وبدأنا نستعد للسفر إلى مصر، وهنا واجهتنا صعوبة الحصول على إذن بالسفر إذ كان السفر إلى مصر ممنوعاً على السعوديين بسبب الأزمة المستحكمة بين مصر والسعودية، ومع ذلك بذلنا جهدنا حتى حصلنا على إذن خاص من صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبدالعزيز، وزير الداخلية - آنذاك - فسافرنا إلى مصر فكانت العقبة الثانية أن أجل الامتحان من شهر (يوليو) إلى شهر (أكتوبر) وليس في وسعنا أن نبقى في مصر إلى موعد الامتحان ولن نستطيع الحصول على الإذن مرة أخرى فكان أن خاب أملي في الدراسة في ذلك العام، أما إبراهيم الفوزان فقد تدبر أموره وتسلح بالعزيمة وأسلحة أخرى وعاد للاختبار وواصل الدراسة أما أنا فقد انقطعت إلى حين.
تحولت تلك الرحلة من الدراسة إلى السياحة وكنا قد قرأنا عن مصر وأدبائها ومثقفيها ومعالمها الشيء الكثير بل وتعرفنا على حاراتها قبل أن نزورها من خلال (ثلاثية نجيب محفوظ) وغيرها من قصصه ورواياته ومن روايات محمد عبدالحليم عبدالله ويوسف إدريس، وقضينا قرابة شهر في كل يوم نستيقظ مبكرين ونذهب إلى المكتبات والمتاحف والآثار وليس في القاهرة وحدها بل ذهبنا إلى (الإسكندرية) ثم قمنا برحلة تاريخية إلى (الأقصر) و (أسوان) وربما تكون مجموعتنا أول مجموعة سعودية تزور أسوان قيل لنا قبل السفر: أسوان شديدة الحرارة في شهر (يوليو) فلم يمنعنا ذلك من زيارتها وقلنا ليست أشد حراً من الرياض ومكة المكرمة وقيل لنا زيارة (السد العالي) ممنوعة فقلنا سنذهب ولكل حادث حديث وفعلاً ذهبنا إلى هناك وقابلنا المهندس (سعد عرفة) وزير السد العالي الذي تكرم مشكوراً بالإذن لنا بالزيارة بعد كلمات ممتعة مقنعة للربيّع والفوزان والصحب الكرام: فزرنا (خزان أسوان)، ثم (السد العالي) في مراحل بنائه الأخيرة.
كانت رحلتنا إلى مصر زاخرة بالأحدث والذكريات، وكان إبراهيم الفوزان (عرّاب) الرحلة والمخطط والمنفذ لكثير من أحداثها.
عدنا إلى السعودية بعد سفرة أردنا أن تكون للدراسة وأراد الله أن تكون للسياحة بعد تأجيل الامتحان فتوقفت - ثلاث سنوات - عن الدراسات العليا واستمر الفوزان فيها حتى حصل على الماجستير عن رسالته (الأدب الحجازي بين العواد والقرشي).
-4-
انتقل إبراهيم الفوزان من الطائف إلى الرياض للعمل في كلية اللغة العربية ثم ابتعث إلى مصر لتحضير شهادة الدكتوراه في جامعة الأزهر تجددت لقاءاتنا كلما ذهبت إلى القاهرة كان منزله في (الدقي) ملتقى للزملاء الذين يأتون إلى القاهرة للدراسة والسياحة فيجدون الضيافة العربية مصحوبة بالبشاشة والترحيب وطلاقة الوجه من يبحث عن كتاب ربما وجده في مكتبته أو تولى البحث له عنه عند تجار الكتب التراثية والقديمة من أمثال (خربوش) وغيره الذين عقد معهم الفوزان علاقات وصداقات.
عاد بعد الدكتوراه إلى الرياض وأصبح (وكيلاً) لكلية العلوم الاجتماعية، ثم (عميداً للقبول والتسجيل) فكان سمحاً بشوشاً ييسر للطلاب أمورهم ويعنى بشؤونهم ولا يتأخر في خدمتهم.
بعد ذلك انقطع للتدريس والإشراف على الرسائل في (قسم الأدب) وكان له أسلوب مميز في التعامل مع طلابه أكسبه محبتهم وتقديرهم كما أن مكتبه في الكلية كان ملتقى للأساتذة الزملاء يجدون منه الترحيب والإكرام، فالقهوة العربية حاضرة و(السكري) متوفر و(الكليجا) لمن يريد وأهم من ذلك ترحيب وبشاشة.
لا أعرف أنه تخاصم مع أحد من الزملاء بله الطلاب بل كان يسعى بكل جهده لإزالة ما قد يقع بين الزملاء من خلاف فكان وسيط خير ورسول سلام ومحبة.
وقبل أعوام أصيب بـ (جلطة) أنجاه الله منها فكان وقع المصيبة على الزملاء شديداً؛ ولذلك تجدهم متحلقين حوله في المستشفى يأتون إليه زرافات ووحدانا حتى منّ الله عليه بالشفاء.
-5-
وختاماً فقد عرفت إبراهيم الفوزان على مدى نصف قرن لم أره مقطباً ولم أعهد عليه شكوى الدهر والضجر من تقلبات الزمن بل كان متفائلاً في كل أحواله.
محباً لكل من يعرف ومن لا يعرف مرحّباً بالجميع
فلأبي أديب مني التحية
والدعاء له بالصحة والعافية.