حينما تقرّر المرأة المغامرة، فإنّها تذهب بعيداً...
تذهب بعيداً عن الحواجز المستهلكة المتمثّلة بالجسد، والعواطف، وما يثير حميّة المجتمعات العربيّة، وبعيداً عن الرؤية النسويّة في الكتابة. إنّها تذهب نحو مغامرة النوع، ولا شكّ في أنّ المغامرين، كما يقول عبد الله القصيمي، لا يحتاجون إلى تلقّي النصيحة من أحد لكي يتقدّموا.
يتمثّل هذا النوع من المغامرات في نصّ «في الميدان رايح جاي» للأردنيّة (سامية العطعوط)، والصادر في الدار العربيّة للعلوم ناشرون،2013، إذ يبحث النصّ عن نوعه، وقد وسم بعنوان رواية مصوّرة، تشتمل نصوصاً عالية الشعريّة، وصراع أصوات دراميّة بتقنيّات مسرحيّة، ونزوعاً روائيّاً دامغاً، وتشكيلاً قصصيّاً يحاكي قصص مغامرات الفتيان. وتبحث القاصّة التي دخلت إلى عالم الرواية، في هذا الكولاج، عن حلم يوشك على التحقّق ثمّ يتلاشى.
تتوازى في النصّ مغامرة بطل النصّ عبد الناصر أو (كي دي)، الاسم المختصر من كاميرا ديجيتال الدالّ على كونه مصوّراً فوتوغرافيّاً، مع مغامرة الكاتبة في الكتابة عبر النوعيّة. وحيث إنّ لكلّ مغامر خريطته، تتشكّل خريطة (كي دي) من الحركة بين دول ما يسمّى بالربيع العربيّ، رغبة في التقاط صور تخلّد هذا الحراكات.
ينتقل (كي دي) من عمّان، المدينة التي تراقب حراكات الدول العربيّة بحذر وتعاطف، نحو المحطّة الأولى المتمثّلة بتونس، وذلك لرغبة (كي دي) في التقاط صورة له مع (البوعزيزي)، ويلتحق به في تلك المغامرة، صديقه البطل الآخر (سعيد)، الشخصيّة البسيطة المحبّة للأكل والحياة، وتحاكي علاقتهما، العلاقة التي ربطت (دون كيشوت) و(سانشو بنزا). ولا شكّ في أنّ لكلّ مغامرة أخطاراً، ومصادفات، وشخصيّات عجيبة، تظهر، وتتلاشى، من مثل شخصيّة (الجيلاني) وصاحبه المخنّث. يصاب (سعيد) في مظاهرات تونس، ويتعلّق بالممرضة (منى) التونسيّة، التي فقدت في أحداث (القصرين) ابن عمّها وخطيبها، فيقع في حبّها، في الوقت الذي لا يحصل فيه (كي دي) على الصورة المنتظرة مع (البوعزيزي)، لكنّه يكون قد فرد لنا وثاثق الثورة التونسيّة بحديث عن الحياة، والسياسة، والحبّ.
ينطلق (كي دي) إلى مصر، ويسهم في مظاهرات ميدان التحرير، ويكون شاهداً على اشتعال الأمل، وخبوّه فيما بعد، حينما تُسرق الثورة التي كان قد رسم لها أن تكون علمانيّة ومدنيّة. يصاب (كي دي) في الأحداث ويقتل صاحبه (سعيد)، وتتوالى الخسارات. يعود (كي دي) إلى ليبيا يشهد مصرع زعيمها، ويشهد تنكيل المليشيات بالناس، ليحصل على فشل آخر. يعود بعدها إلى تونس لتنفيذ وصيّة (سعيد)، بالاهتمام بـ(منى) وإخبارها بألاّ تنتظره، لكنّه يقع في حبّها، وكي يهرب منها يعيش متناقضات الحياة التونسيّة بين المواخير ومقامات الأولياء، والتي تهاجم على حدّ سواء من قبل مجموعات عنيفة وغريبة لا تنتمي إلى ثقافة المكان.
يسير خطّ الرحلة نحو سورية بإطلالة مقتضبة على منطقتي داريّا والقصير، حيث لا شيء سوى مشاهد الموت المجّانيّ، و المصير المجهول. يعود بعدها (كي دي) بجعبة خسائره، إذ لم يلتقط أيّة صورة، لأنّه كلّما حاول كان الموت أو الفقد يسبقه، أو أنّ الكاميرا لا تطاوعه، فتحترق بطريقة فانتازيّة. يصل إلى عمّان مدينته، التي يشبهها كثيراً في كونه ليس سوى شاهد على الخراب، منفعل بالحدث فحسب، دون أن يكون فاعلاً به.
لم يكن البطل مع مثل هذه الثورات التي اكتنفتها قذارات كثيرة، أشار إليها في حوادث عدّة من مثل ما حدث في التحرير مع (ناتاشا سميث) الصحفيّة البريطانيّة التي دخلت ميدان التحرير مع صديقها المصريّ مناصرة للثورة، لكنّها تعرّضت لتحرّش جنسيّ فظيع وجماعيّ، يحتجّ عليه (كي دي) بقوله: «هل تعتدي الثورات على أصدقائها؟»ص161، ولكنّه في الوقت ذاته، لم يكن ضدّ فكرة الثورة البريئة أو النظيفة. لم يحسم (كي دي) موقفه تجاه هذه الحراكات المباغتة، ولأنّ «البشر دائماً يسيرون في طريق لا يبصرون نهايته»، سار في مغامرته مع مسوّغات عدّة: «عندها أدركت أنّني مجرّد إنسان، وأنّني يجب أن أواجه أوهامي ومخاوفي» ص204
يعدّ النصّ وثيقة تاريخيّة في إطار خياليّ، يكمن الفرق بينها وبين الوثائق الأخرى في الحركة لا في الفكرة، في حركة النوع تحديداً، بالاتساق مع حركة الشخصيّات إذ ينماز عدا عن الجهد الوثائقيّ، بنزعة صوفيّة دامغة وغريبة، تبدو في مواقع عدّة، من مثل الموقف الذي يتحدّث فيه (كي دي) عن الفتاة التي تسقى العطاش في ميدان التحرير، إذ يصوّر ماءها مثل صوفيّ يصوّر الخمرة التي يتشارك قوّتها ولذّتها مع صحبه:
«شربت كوباً آخر، واكتشفت حينها فقط، ما أعذب مياه النيل!...وحين استجمعت شجاعتي وحمحمت كي يخرج صوتي، كانت قد اختفت من أمامي. لمحتها من بعيد، تصبّ الماء لآخر، قد أصابه عطش ما! فارتوينا!...» ص131
يعود بنا بعدها إلى الحالة الوثائقيّة: «كانت شريهان تقف هناك، رأيتها تطالب برحيل النظام، ربّما لأنّ النظام قتل أخاها الوسيم عمر خورشيد...»ص135
يشير هذا النصّ، في مغامرته، إلى رغبة جامحة في امتلاك التمثّلات الفنيّة كلّها: حكايات التراث، والتجلّي الدراميّ عبر مسرحة الأصوات: المشاهد، والرائي، والراحل، والعائد، والهاتف، والتصوير الغرافيكي المدمج بالكومكس على غرار (مغامرات الشياطين 13)، حيث يمثّل الرسم معادلاً سرديّاً بصريّاً للحدث، يساعده على قول ما لم تقله اللّغة.
تحاصر الفانتازيا المترافقة مع الرعب تفاصيل كلّ من الرحلة والنصّ، وتتبدّى بتجلّيها الأكبر في سورية، فتحترق معها الكاميرا المرافقة للبطل، والتي تشكّل أيقونة النصّ الفنيّة:
«والطفلة التي نامت في حضن أمّها، تبحث بين الأشلاء عن ثدي يدرّ الحليب وجدت إصبعاً من أصابع أمّها، وضعته في فمها،وبدأت تمصّه بنهم».ص217
تستمرّ الرحلة عامين، ثمّ تبوء بالفشل، والفقد، ويكون الرابح الوحيد الإعلام الذي يعتاش على آلام الناس، فالصحفيّ الذي صوّر (كي دي) منتحباً على مصرع (سعيد) في التحرير، يفوز بمسابقة دوليّة، عن هذه الصورة القاسية!
يؤكّد نصّ «في الميدان رايح جاي» لـ (سامية العطعوط) على أنّ الكاتب لا يغيّر المجتمع، وكذلك الفنّان، لكنّه يكشفه، ويقدّم قراءة شاملة وصادمة له، ويذكّرنا كي لا ننسى، مثلما يشير إلى أنّ مغامرة المرأة في الكتابة تكسر أفق التوقّع، إذ تقفز من الإطار إلى عالم الأشكال الفنيّة، وتبدي تصميمها على ترك بصمة مغايرة، جعلت من المألوف مختلفاً ومدهشاً. لعلّنا عرفنا المرأة التي تكتب عن العالم كلّه، لا عن قضاياها النسويّة فحسب، وها نحن نتعرّف إليها، وهي تنتقل إلى مستوى آخر من نظريّة الفنّ، إنّه الانتقال من السؤال عن ماذا نكتب لنكون مختلفين ودامغين، إلى السؤال عن كيف نكتب لنشكّل إضافة نوعيّة إلى عالم الكتابة.