ينفسح مجال السرد ليستوعب تعارضات الفعل الثقافي الأيدلوجي، فيُنطق المسكوت عنه، أو يعارض بنية الواقع الاجتماعي؛ ليستحيل ذلك الواقع البشري إلى بنية كتابية تعاين المدلول الإنساني، ويهيمن فيه صوت المؤلف الذي يمثل دلالة موضوعية تتصل بالوجود وإبستمولوجيا المعرفة، وقد تتعارض الآراء النقدية أو تتقابل في تلقي الفكر والبناء الروائي للرواية. وهذه الرواية تصور فصولها طبيعة المجتمع الذي هي فيه ووعيه من وجهة نظر الكاتبة، حيث تشف عن واقع مُعاش يظهر فيه إقصاء للمرأة، وتبرز البؤرة الدَّلالية لثيمة الرِّواية في عنوانها الذي يحمل اسم الفردوس اليباب، وهو عنوان يفيض بالدِّلالة، وقد يرسم في أفق التوقع صورة متناقضة للوهلة الأولى تجمع بين الفردوس والخراب، بيد أن الفعل الروائي الذي تنفتح عليه الرواية في أولى مشاهدها يجعل الصورة تتضح في أفق التوقع، إذ يُصور هذا المشهد قصة حُبٍ يُحجَب فيها عن المتلقي قضاء ذلك الحُب وتلك العاطفة، وعالمها الفردوسي؛ ليُصور اليباب الذي آل إليه ذلك الفردوس، وتستخدم الكاتبة في هذا المشهد تقنيات الزمن الروائي الذي أشار إليه جينت فتلجأ إلى الحذف والإسراع في حركة الزمن؛ لتصل إلى نواة الحكي، والمشهد الذي يُشكل نقطة التحول، وهنا تبدأ حركة زمن الخطاب بالإبطاء لتلقي الضوء على المشهد الأول، وهو خطوبة خالدة صديقة صبَا (بطلة القصة) على حبيبها الخائن (عامر) دون علم خالدة بتلك العلاقة التي تجمعهما، والتي خُتمت فصولها بتركه لها وفي أحشائها جنين ينبض، فكان ذلك النَّبض البركان الذي فجَّر الأسى والحسرة وأنين الندم في داخلها، حيث تمتزج مشاعر متماوجة تتلون بين حب الأم لذلك النبض الذي تسقيه بدمها، وبين الخوف من الخطيئة التي تلاحقها في كل خطاها، مما جعلها تتوهم بأن كل العيون تعلم سرها، وترمقها بوعيد حارق، ويستمر الخطاب الروائي في تشييد عالم سردي يعكس تجليات التمييز العنصري في الثقافة الاجتماعية، وما يحتشد في هذه الثقافة من مظاهر الاستبداد الذكوري على المرأة، فالمخطئ يجب أن يعاقب رجلا كان أو امرأة، وتظهر الرواية ثيمات ذات دلالة اجتماعية، فتتخذ البطلة خاصية نسقية تُشكل معالمها سِمات المظلومين تجاه المجتمع الذي لا يغفر، وتجاه الرجل الذي لا يفتأ يعبث بلامبالاة. وتؤدي البطلة وهي المرأة المكلومة في المجتمع دور الضحية التي تستسلم للخِداع، ويؤدي الرجل دور الشرير تبعًاتصنيفات فلاديمير بروب للشخصيات. وتتصاعد موجات المنولوج الداخلي، ويهيمن على فصول الرواية صوت الذات الفردية التي تجد صعوبة في التكيف مع وقائع المواجهة في رؤية تنبذ أعراف الهوية الاجتماعية والأيدولوجية ،ويتجلى في هذا الخطاب زاوية من زاويا أشكال التبئير عند جيرار جينيت، «وهي الرؤية المعية حيث السارد فيها يساوي الشخصية، «ويستخدم ضمير المتكلم، ويؤدي دوره من خلال «المنظور الذاتي الذي يخفى علينا فيه ما هو خارج رؤية العين»، إذ تنفتح كاميرا الفعل الروائي على بانوراما ضيقة تقصر النظر على شخصية البطلة التي ما تفتأ تبحث عن محاولة للتطهر، فتقرر إجهاض الجنين، وتتسم تقنية الزمن هنا بالإبطاء؛ لتحتل تفاصيل هذا الإجهاض مساحة واسعة من الرواية، وتسهم اللغة لا الأحداث في إثراء النص وامتداده، فيشمل هذا الحدث جحيم الاصطراع الفكري الذي يبحث عن الغفران والتطهر ويتفاقم خطره في نفس البطلة، إذ تقرر الانتحار هربًا من لعنة الخطيئة التي أبت أن تفارقها رغم كل محاولات التطهر، فاستحال ذلك الفردوس -الذي حلمت به- يبابا.
فبين (الواقع والحلم وتيار الواعي) تعي أن الحلم كابوس والفردوس يباب والجنة نار، وأن الراحة في الراحة منه، وهذه المعاني التي عاشتها في مجتمع يثقل كاهل المرأة،، تعيها لاحقًا صديقتها خالدة بعد معرفتها في آخر الرواية بملابسات الأحداث، فتقرر الانفصال عن عامر لتنتهي حياة المرأتين في الرواية بالموت أو الانفصال، وتبرز هنا علاقتي الرغبة والتواصل التي أشار إليها غريماس عندما وضع نموذجًا للفعل الحكائي يقوم على ستة عوامل تتألف من ثلاث علامات منها: علاقة الرغبة وتجمع هذه العلاقة من يرغب (وهي الذات) التي شكلتها خالدة في الرواية، وما هو مرغوب فيه (الموضوع) وهو التطهر من الخطيئة، وهذه الذات حسب غريماس إما أن تكون في حالة اتصال مع الموضوع وترغب في الانفصال عنه، أو في حالة اتصال وترغب في الانفصال، وهي تتجه نحو موضوع له قيمة، وهذا الاتجاه هو الذي يحدد رغبة الذات. لذلك نجد أن هذه الذات في الرواية تحرص على تطهير نفسها من الخطيئة لتستطيع التعايش مع المجتمع الذي أرقها، وتظهر هنا كذلك علاقة التواصل» وهي التي تبين ذات الحالة» ولا بد أن يكون لها محرك أو دافع يسميه غريماس مرسلاً، ويلاحظ هذا المحرك أو الدافع في الرواية من بداية الرواية فهو القطب الذي تدور عليه مكنوناتها وتحولاتها،حيث اقترفت الشخصية الرئيسية الخطيئة بدافع الحب، ثم لجأت إلى الانتحار في آخر الرواية بدافع التطهر من الخطيئة. وقد سارت الأحداث في فضاء جدة حيث تستنطق هذا المكان، وتجعل منه فضاء تتخلق فيه نماذج المجتمع وأعرافه وأحكامه، وتتكاثف فيه الصور في سياقات متباينة؛ لتغدو معادلاً موضوعيًا لإقصاء الآخر والاستبداد الذي ينتهي إلى الفناء. وتحفل الرواية كذلك بتناصات كثيرة « والتناص يرتبط بمفهوم الحوارية الذي يلعب دورًا هاما في الرواية فهو يرى أن كل ملفوظ سواء كان ينتمي للأدب أم هو متجدر عنه في سياق اجتماعي كما أنه موجه لأفق اجتماعي» (1) . وقد أشار مجموعة من النقاد إلى التناص في الفردوس اليباب، ويرى د. منصور الحازمي أن الرواية فيها الكثير من طريقة أحلام مستغانمي السردية من الاقتباسات والتناصات ولاسيما مع محمود درويش». ويراها د. جمعان الغامدي والشاعر مسفر الغامدي ود. أميرة كشغري أنها مزج بين تطهيرية ميلتون الفردوس المفقود وقصيدة إليوت الأرض اليباب. وهذا التناص يقودنا إلى الرموز التاريخية، حيث حفلت الرواية برموزاريخية كثيرة كالأندلس والقدس وأمريكا كلها تستدعي دلالات عميقة، فالفضاءات تتحد مع الشخصية؛ لتوصل نداءات متوسلة عبر التاريخ الذي أساء أصحابه إلى مكامن الجمال فيه ولم يحافظوا على أغلى ما يملكون، فتوالت الخسائر متهالكة ؛ ليكون الثرى مثواها الأخير فالموت ليست للكائنات الحية فقط، بل لكل جمال يُساء التعامل معه.
مدن تنهار، وردة تسقط، مدن تغور ،الأنثى في كل مكان معاداة حتى وإن كانت جمادًا، فالرواية لا تقف عند الموت ليكون هو النهاية، ولا تتخذ من جدة بطلة لها -في رأيي- بل هي تستدعي التاريخ الإنساني بكل رموزه لتبرهن على الظلم واللا مساواة في ثنائيات ضدية يحكمها الجور ؛ ليجعل شعارها الموت والحياة، حدث بسيط وشخصيات محددة، والعقدة هي البداية ولحظة التنوير هي النهاية، والرواية تحوي دلالات أعمق من الحديث عن مأساة فتاة أو مدينة تعادلها موضوعيًا، هي عالم نعيشه تتابع الأيام يتغير الناس والتاريخ لا يتغير بل يعيد نفسه، فالفردوس يباب وصَبا المرأة الأولى في الرواية تموت قهرًا، لكنها تلد أشباهًا كثيرات لها، فهي خالدة، كما الرجل يظل عامرًا في الحياة، فدلالات الأسماء هنا تحيل إلى معان عميقة فخالدة بمعنى باقية على أية حالٍ كان بقاؤها، بينما عامر يعني البقاء الثري، فهي تختزل التاريخ في حدث يلد قراءات كثيرة، وتتنامى فيه معاني الرموز لتشكل من هذا النص نصوصًا أخرى.
** ** **
(1) مدخل إلى التناص، نتالي غروس، ترجمة ترجمة عبد الحميد بواريو، نتنوي، دمشق، 1432، ص33.