المقهى ذات المقهى والصالة السينمائية ذات الصالة والمسرح ذات المسرح مضافا إلى كل ذلك كنيسة!
بعد الربيعات العربية المدلهمة تهدمت البنى التحتية لبلدان الربيع العربي، فتهدمت صالات السينما في العراق وكذا المسارح وتعطلت ماكنة الإنتاج السينمائي في مصر وتعطلت مسلسلات التلفزة السورية وضاعت ملامح ثقافة أدبية في ليبيا. ولكن بقيت تونس بقاعدتها الإنتاجية الثقافية والإجتماعية ولم تتهدم لأن ثمة وعي الضرورة يتشبث بالإنجاز الثقافي ويتشبث بالتقدم.
لا يزال صندوق دعم السينما قائما والأفلام تكتب وتنجز في تونس بدعم سخي من الدولة. مهرجان المسرح ومهرجانات السينما لا تزال قائمة. نوادي الأفلام كما هي وتتألق وتبحث في الجديد. دعم الكتاب لا يزال ماديا وورقيا. سينما الكوليزيه في الشارع المتفرع من شارع بو رقيبه لا تزال بشكلها الكلاسيكي المعهود يأتيها الناس كل يوم ويتمتعون بمشاهدة الأفلام الكلاسيكية والحديثة.
ولقد أضيف لكل هذا المجد الثقافي كنيسة!
ثمة كنيسة في تونس من بعض الكنائس التي تركتها فرنسا بعد الاستقلال تحولت إلى مراكز ثقافية وبقيت الكنائس الدينية قائمة في تونس طبعا. ولكن أكثر من كنيسة تحولت إلى مركز ثقافي، ولم يعترض الفاتيكان على الفكرة سيما وأن طبيعة البرامج الثقافية تكون ذات طبيعة خاصة تحترم التقاليد والمعاصرة المسؤولة والقيم الروحية. إحدى هذه الكنائس تديرها السيدة «سنية بن يحيى» وعملت من جملة نشاطاتها تكريم المثقفين التونسيين. واليوم يرتبون عرضاً لفيلمي «المغني» حيث الكنيسة مجهزة بأجهزة العرض الحديثة.
إن فكرة الكنائس الثقافية ليست جديدة في العالم، بمعنى أن تتحول بعض الكنائس أو تسمح بنشاطات ثقافية أو كونسيرت موسيقى، فالكنائس أصلا تعزف فيها الموسيقى من الأورغ الذي يحتل مكانا في كل الكنائس وإن الكورال المدعم بأنغام الأورغ سائد منذ أزمان بعيدة، وسيمفونيات باخ في ألمانيا وفي مدينة لايبزغ بالذات عزفت في كاتردائية وبكورال ديني ولا يزال التقليد قائماً في تلك الكاتردائية حتى يومنا هذا.
في تونس سرى هذا العرف وبمباركة كنائسية في أن عددا من تلك الكنائس تحولت بزجاجها الملون وبإرتفاع سقفها المزين بلوحات الرسامين الكلاسيكية وبتمثال المسيح على جدرانها والجو المفعم بالهدوء والتأمل يتم تقديم النشاطات الثقافية وتؤدى المسرحيات على ذات المنصة التي كان رجل الدين يلقي بمواعظه منها. ويقف الممثلون بتشكيل المسرح وإنارته كما كان يقف الكورال الذي يردد الأنغام الدينية.
يصعب علي الآن وأنا أكتب هذه الكلمة أن أصف كيف سيعرض فيلمي (المغني) داخل هذه الكنيسة وكيف سيجلس الجمهور والمسؤولون والصحفيون وكيف سيسمعون الصوت المجسم للفيلم. متشوق لأن أجلس في الكنيسة وأشاهد فيلما سينمائيا .. وهو فيلمي.
معروف أن هناك ما نطلق عليه «شكل العرض السينمائي» حيث الفيلم السينمائي يشاهد بأشكال مختلفة، فمشاهدته صيفا غير مشاهدته شتاء، ومشاهدته في الهواء الطلق غير مشاهدته في صالة مغلقة، ومشاهدته في المنزل غير مشاهدته في صالة سينما، ومشاهدته على أجهزة صورة وصوت حديثتين غير مشاهدته بأجهزة تقليدية وكلاسيكية، وأنا أشاهد بعض الأفلام بأشكال عرض مختلفة، فعندما أقرأ خبرا عن فيلم سبق وأن شاهدته في صالة سينما مغلقة وأعرف أن العرض في الهواء الطلق فإني أذهب لمشاهدته ثانية وأحيانا ثالثة، فأشعر بكل مرة بنكهة وطعم مختلف لذات الفيلم. ومرة تمتعت بمشاهدة فيلم «المومياء» لشادي عبد السلام في منطقة قريبة من الآثار المصرية صيفا في الهواء الطلق وشعرت بأن ما يعرض على الشاشة يعرض على الواقع أيضا، حيث صور الفيلم نفسه بين الآثار المصرية فكان موضوع الفيلم وعرضه قرب منطقة أثرية قد منح الفيلم معنى آخر وجمالية مختلفة من عرضه في صالة مغلقة.
بعد أيام سوف يعرض فيلمي «المغني» داخل هذه الكنيسة الثقافية. والكنيسة هي أجواء موسيقية بحد ذاتها وفيلمي هو موسيقى غنائي داخل قصر لدكتاتور عربي .. فأي مشاعر سوف تنعكس على المشاهدين وأنا متشوق أن أشاهد فيلمي في مثل هكذا تكوين شكلي وروحي.