لا يزال الحديث في سياق أهم الآليات التي يمكن أن تساعد على تفعيل التواصل بين الأقسام العلمية، وتكون في الوقت ذاته ثمرة من ثمار هذا التواصل الذي تدعو هذه السطور إلى الاهتمام به، والوعي بضرورته، والاتجاه إلى ترسيخه، وجعله منهجاً متبعاً على مستوى الأقسام والكليات في جامعات وطننا المترامية.
فمن أوجه التواصل بين الأقسام تعاونها فيما بينها في (إقامة الندوات الدولية وتنظيم المؤتمرات العلمية)، سواء تم ذلك من خلال الجمعيات المتخصصة التي جرى الحديث عنها في المقال السابق، أو من خلال أي طريقة أخرى ترى الأقسام مناسبتها، ولا شك أن إقامة مثل هذه الملتقيات العلمية التي تتعاون الأقسام ذات التخصص الواحد في تنفيذها يرسخ جسور التواصل بينها، ويسهم في تقوية الأواصر بين أعضائها، فمثل هذه المناسبات تحتاج إلى إعداد مبكر وجيد، واستعداد متقن ومدروس، سواء من حيث اختيار الموضوعات التي ستناقش فيها، وتحديد الأولويات التي ينبغي دراستها، والاتفاق على المحاور المهمة التي تعقد مثل هذه الملتقيات لفحصها والخروج من ذلك بنتائج جديدة ومبتكرة، وتدوين توصيات تكون محل اهتمام وعناية في المستقبل.
أضف إلى ذلك ما يمكن أن تبثه هذه المناسبات من روح التعاون والتوافق بين أعضاء هيئة التدريس في الجامعات، وما تشعر به من تعارف وتآلف، وما تمنحه من تقدير لهؤلاء الأساتذة الذين سيشعرون حتماً بالمسؤولية الاجتماعية، وما ينتظره المجتمع منهم من مهام ملقاة على عواتقهم، ناهيك عما يمكن أن تلهمه من أفكار ومقترحات قد تنشأ من تواصلهم.
ومما يمكن ذكره ضمن آليات تفعيل التواصل العمل على (تشجيع التأليف المشترك) بين أعضاء الأقسام ذات التخصص الواحد، حيث يشترك أكثر من عضو منتمين إلى أقسام مختلفة في تأليف كتب أو كتابة مقالات علمية أو موسوعات معرفية أو معاجم تجمع مصطلحات التخصص، وهذا الأمر في غاية الأهمية، حيث يسهم في إثراء البحوث العلمية وجودتها، فضلاً عن تحقيق التواصل المنشود بين الأعضاء، إضافة إلى تقديم معلومات ومعارف ربما تكون جديدة ومميزة، خصوصاً إذا كان الأعضاء ينتمون إلى مدارس مختلفة في التخصص، وهذا يمنح المتلقي الاطلاع على نتيجة التلاقح بين المدارس، والتعرف على الفروق بينها ومميزات كل منها، بل ربما يفتح له آفاقاً أخرى جديدة لم يُسبق إليها.
ولا يمكن أن يُغفل المتأمل (إنشاء الدوريات المتخصصة والمجلات العلمية) بوصفه آلية مهمة من آليات التواصل بين الأقسام، وثمرة كبرى من ثماره، فما المانع من أن يكون لكل تخصص مجلة تنشر بحوثه، وتتابع مستجداته، وتُعرِّف بعلمائه، وهذه المجلات ستسهم بلا شك في تعزيز التواصل بين أعضاء الأقسام المختلفة، وتقرب بعضهم إلى بعض، وتعرف بجهودهم ومنجزاتهم، وتطلعهم على الجديد في تخصصهم، وتفتح لهم آفاقاً واسعة من البحث والدرس والنشر.
وتتزاحم في ذهني طرق التواصل وآلياته، فمنها على سبيل المثال (تشجيع تبادل أعضاء هيئة التدريس) بين الكليات والأقسام المشتركة في التخصص، والعمل على زيادته والرفع من مستواه، سواء أكان ذلك التبادل لأجل إلقاء المحاضرات المتخصصة أو لتدريس المقررات، وهذا يسهم بصورة واضحة في دعم أوجه التعاون بينها، ويساعد أكثر من مؤسسة تعليمية على الاستفادة من أعضاء هيئة التدريس المميزين بدلاً من أن تنحصر الفائدة في جامعة واحدة.
وختاماً.. إنَّ التواصل بين الأقسام العلمية المشتركة في التخصص والمتفقة في الهدف أمر في غاية الأهمية، وما هذه النتائج إلا شيء يسير من نتائج أخرى أكثر وأكبر، تسهم بكل قوة في رقي المؤسسة التعليمية وتميزها، وتساعد على تحقيق الأهداف التي ينتظرها المجتمع منها، وإنَّ استقلالية الأقسام وتقوقعها وعدم انفتاحها على مثيلاتها على المستوى المحلي - على الأقل - لن يفيدها شيئاً، ولن يؤدي إلى أي نوع من أنواع التطور ومواكبة التقدم العلمي والحضاري المتسارع، وستبقى مثل هذه الأقسام رهينةً للتقادم والهجر وتكرار الجهود، وستظل الجامعة التي تحتضنها مجرد رقم في منظومة المؤسسات التعليمية، وهامش في صفحات التسابق العلمي ومتون الإنجاز الخضاري.