إلى ميرنا ناصر الدين.. مجدداً
(أحبُ قصص الأئمة التي يتحدثون فيها عن النصر)
زهراء - 8 أعوام
(1)
ذكرت المرويات والوثائق التي نشرت عن الحقبة النازية في ألمانيا، أن حزب العمال القومي الاشتراكي (الحزب النازي) ضمن سعيه لخلق عقلية ألمانية جديدة، تتلاءم مع المبادئ العليا للحزب وعقيدته، قام ببناء مجمعات خاصة للتربية إلى جانب مدارس الدولة نفسها، تقوم بحشو عقول الصغار بمفاهيم، ثبت فيما بعد، أنها ساهمت بتدمير العقلية الألمانية كلياً لناحية التعايش في عالم يتساوى فيه الجميع.
غير أن التجربة النازية، وإن كانت في مكان ما، دمرت أوروبا وأجزاءً أخرى من العالم، في حقبة ماضية، إلا أن هناك من لا يزال يستلهم منها دروساً وعبراً. وغير خافٍ، أن هذه التجربة لم تقتصر فقط على الألمان. وإن كانت، عندهم قد بلغت ذروتها. بل إن التجربة ذاتها، طبقت في الصين وفي موسكو (الاتحاد السوفياتي سابقاً) وفي كمبوديا أيَّام الخمير الحمر، واليوم في كوريا الشمالية، الجمهورية الحديدية من الخارج فقط، فيما هي من الداخل كالخشب القديم الذي نخره السوس.
والحق إن صناعة أجيال من الإرهابيين، من خلال غسل العقول وحشوها فيما بعد، لم تقتصر على الأنظمة الشمولية التوتاليتارية، بل هي، حالياً، عمل أحزاب، تؤلف من ضمن مؤلفاتها الكثيرة، مرويات لا تنسجم مع التوجهات العامة لمجتمعات محددة. فقد حفلت البلدان التي عاشت حروباً أهلية، بأحزاب تؤثر عيش أفرادها وجماعاتها في فقاعات أيديولوجية تنفجر عند أول منعطف ليذوب الأفراد ومعهم الجماعات في سلسلة من الإحباطات الناجمة عن اختلافاتهم الجوهرية مع العام والسائد، مع السياق الطبيعي للحياة البشرية السوية للمواطن الطموح والمجتهد.
في لبنان، إبّان الحرب الأهلية وما سبقها، خلقت أحزاب فرّخت بدورها جماعات وأحزابا كثيرة، استندت على أفكار عنصرية ترفض الآخر لمجرد أنه لا ينسجم مع هذه الأفكار. ونمَّت الحرب، لهذه الأفكار أظافر وسكاكين وعصياً وبنادق نزعت للاستعمال الإلغائي للآخر، مدمرة النسيج الأهلي ومفجرة هذا النسيج محولة إياه إلى قطع متناثرة، احتاج البلد إلى مئتي ألف قتيل وعشرين ألف مفقود لرثيها.
لكن السلم الأهلي (البارد) على ما وصفه وضاح شرارة، لم يرث بخيوط متينة غير قابلة للتمزق والتلف. ما جعل للدولة دوراً ثانوياً أثناء انكفاء الأحزاب وعقائدها إلى الخلف دون التخلي عن نظريات الصفاء التي كانت لها. فبقيت الأحزاب والجماعات، تعيش حالة رفض للآخر دون تسميته في كثير من الأحيان، مؤثرة العيش ضمن التقوقع الطائفي والفكري في قلب منطق الدولة المتأخرة والفاشلة في خلق حالة من المواطنة السليمة لا دولة الخدمات السوبر نفعية، سواء على مستويات سياحية براقة، أو طائفية ضيعجية لا طموح لها سوى نهش جسد الدولة المهترئ والمتراخي يوماً بعد يوم. قبل الطائف ونهاية الحرب، كانت الأحزاب تعيش ضمن نفسها. الشيوعيون يعيشون في مناطق غير التي يحتلونها، يربون أولادهم على أفكارهم المنسجمة مع كثر ممن يفضلون الانتماء إلى البعد العربي الأوسع والأشمل، بسبب البعد اللاطائفي المقتنعون به نهجاً وسلوكاً حياتياً جعلهم الأكثر استفادة من مرحلة التسعينيات مقارنة بغيرهم. فيما بقي الكل تقريباً من الأحزاب الطائفية يعيش داخل نفسه ويساهم بتآكل فكرة الدولة لصالح النفوذ المناطقي والطائفي الذي لا تبنى علي أساسه الدولة والأوطان. وباستثناء حزب الكتائب والقوات اللبنانية اللذين بدءا حواراً مع الجميع لكسر الحاجز الذي سببته الحرب، بقيت بقية الأحزاب تتناسل ضمن شرنقتها وكياناتها الصَّغيرة المحتقنة بالفقر الفاحش والثراء الفاحش لأمراء الحرب السابقة.
حصيلة التسعينات، حتى العام ألفين، كانت إعماراً في مكان، وثباتاً في العقلية الناقصة والمتهدمة الفيلولبنانية. ولم يرتفع في بنيان العقلية شيء بينما ذابت في سوق الاستهلاك على فرادة الهشاشة والتكسر الداخلي، إعلاناً لقطيعة قشرية مع الماضي ما أنتج بلداً بلا كتاب تاريخ ومناهج تربوية توقف التاريخ فيها عند لحظة البناء على فكرة خيالية لا يمكن تطبيقها مع الأسس التي بنيت عليها لحظة الإعمار نفسها.
(2)
ضمن هذا السياق، نجا حزب الله من عملية الانخراط الدرامي في بنية الدولة الإعمارية والمجتمع المتهدم. لا كي يساهم، من طريق آخر، ببنائهما، بل إن الحزب نسج مجتمعاً على منوال مغاير لفكرة لبنان والدولة كلياً. مجتمعاً يتهدم تلقائياً كلما زادت سنواته.
لقد أدخل حزب الله إلى المجتمع الشيعي اللبناني، مفاهيم دينيةً تجاوزت بكثير، المفاهيم التقليدية التي بني عليها هذا المجتمع في حقبات سابقة. فالثورة الإيرانية، بالغت في نجاحاتها لتذويب عموم الشيعة العرب ضمن فلسفتها الدينية بعدما هشمت بحربها الممنهجة مرجعية النجف التقليدية وواقعيتها الاجتماعية المنضبطة ضمن الكيانات والأوطان التي يعيش فيها الشيعة، لصالح مرجعية قم القائمة على تعزيز دور الخرافة في المجتمع الشيعي، وبالتالي تحويل الشيعة إلى طاقة عدائية للآخر الذي يشاركهم الأوطان حيث هم.
كان العام 2006 ذروة نشر هذه الخرافات المعززة بقدرات عسكرية ردعية تمكنت من صد الهجوم الإسرائيلي على الأرض. فما أن انتهت الحرب، حتى بدأت تظهر أخبارٌ وخرافاتٌ لا يمكن أن تصدق سوى في بيئة غسل عقلها كاملاً ونظف كلياً من أي أثر حداثوي يساعد على إعمال وتحريك العقل بشكل يدفعه لرفض الخرافات. لكن الخرافات من مثل أن مقاتلو الحزب شاهدوا أحد الأئمة يحارب معهم بسيفه ! أو أن الإمام (؟) جاءهم ليلاً وشد من إزرهم وساعدهم وعاضدهم على القتال ! بدأت تتناسل في القرى والمدينة ووصلت إلى التلفزيون نفسه (تلفزيون المنار) وبدأت تتلى القصائد والحكايات وتتناسل وتتعاظم حتى بات من الصعب محوها.
وقد ساهم هذا السلوك أن دخلت الخرافات إلى عقلية جنوب إسرائيل نفسها. فقد نشرت اليديعوت أحرونوت تقريراً من مراسلها العسكري علي جبهة الشمال، كما تسميها إسرائيل، تفيد أن جنوداً على الجبهة شاهدوا أشباحاً باللباس الأبيض تقاتل إلى جنب حزب الله الأمر الذي دفع ببعض هؤلاء الجنود إلى الخوف و(تنتابهم حالات هستيرية) كما كتب المراسل حرفياً يومها.
ماذا فعل حزب الله؟ بكل بساطة فإنه اشتغل على المرويات التقليدية الدينية ليخلق منها عصباً لعقيدة قتالية تبني مجتمعاً من المقاتلين الذي يدبون الذعر في الآخرين، وهذا تعريفٌ لاصطلاح الإرهاب، لأنه يفوق بكثير طاقة المنطق الذي يدعو عرضاً لمقاومة المحتل إن كان هناك فعلاً وجود لمحتل على الأرض. وهو في الفترة التي تلت الحرب بدأ باستهداف الأطفال عبر نشر مجلة توعوية (مجلة مهدي للصغار) التي تعمل على سياسة تلقينية تغرس في عقول النشء أفكاراً تحولهم إلى قنابل موقوتة اجتماعيا ومشروعات إرهابية تفرغ المجتمع الشيعي من قيم المواطنة وتحوله إلى جندي في جيش الولي الفقيه الجالس على طراحة من ذهب في طهران.
(3)
لا يبدو لبنان مع مشروعات كهذه، بلدا يحملُ خاصية التطور نحو الأفضل. فمن يمتلكون فهماً عميقاً للتمدن والمواطنة يهربون بالعشرات، هذه المرة، ليس بسبب الفقر فقط وإنما قد توصلوا فعلياً وبعد لأيٍ كثير إلى فشل الدولة في ضبط المجتمع وتحولها إلى دويلات رديفة يفعل مواطنوها ما يحلو لهم. فيما الحانات في رأس بيروت والأشرفية تزدهر لعقول مفرغة هوائيا من كل معنى إلا اليأس.