ذهبت مع البدو، شاهدت شموسهم تنهض من الدم والنوم. النساء سادرات في العري يصعدن إلى مستوى المؤانسة، وطيور القطا تبني أعشاشها في ثياب البدويات. مياه تنحت الظل تحت السواد، ليف كثيف يتخلل الخضرة الخائفة. ذهبت مع البدو، تبوأت نصيباً من البرية، لم أكن أنا ولم يدّاركني راهب يشير إلى خراب ما. هذا الكثيب الموبوء بالذهب ينتشر عليه غبار ذري. الطرائد نائمة في وبرها الأزرق غير مكترثة بريح تشعث الأشياء. أنا المحجل بالألواح صاحب الرتبة الغامضة أدلك الليل كله وفي داخلي حجر يعترك كثيراً ليهرق الشمع على الناس. تساقط شعري في الطريق شعرة شعرة فلم أتدبر شؤون البيت ولم أزمع اللهو مع بنات آوى. أورقت ورائي مدينة كالقطن المنفوش عليها أختام محرزة، مدينة تنام فتياتها في صناديق مطلية بالقطران. ولأنني مرتاب من الأبواب والتوابيت، ذهبت إلى بر بعيد لا يعترف بالمفاتيح والمربعات. ها أنذا أرقد تحت نعامة متحجرة، أتعثر في نومي بفخاخ قديمة نصبها لي أطفال قدامى. هذا البر المثقل يخرز الغجريات يطيرني في فضاء الله مثل بالونة انفلتت من أهل البيت. هذا البر يدلني على الزمرد ورخام المرأة. كلما تذوقت قنداً من القصب الأسود سال لعاب الليل وظللني الغمام وطشت مع ناي منسول من العدم. أشغال شاقة تعتور مصيري كما يعتري روح الوردة رماد يداهمها. قفازات متعفنة تلمع فوق الفحم هوى بها الحارس المدثر تحت ذريعة الألعاب، حيث الأقنعة ملقاة على تويجات من الشوك كأقمار تقعرت في الطريق. لن أسمع صلصلة صدئة، فررت من المدينة رسولة الحديد.
2- الشعراء
مشبوهون في خلوة مع الآلهة. يتوزعون بين النار والريح. الرماد في حدقاتهم وإبر من الضوء تحت شارتهم ترعى حريراً يبرق في الدار الصاعقة تتدحرج حتى مساقطهم غير أنها ترتد زهرة تسكن خراب البحر. هم الشعراء يرمون جواهرهم في النهر فينزف الحديد بين أيديهم سلالة من الدم المهول. يرتلون مزاميرهم في المرافئ والغابات تحت قرع النحاس. هم رفقاء الأباريق يتشربون اللون ليهطلوا في الورد. يفلتون الغيمة في الليل والضحى غير مكترثين بأعطال الظهيرة. ترتفع معهم يد النائم لتخبط السماء. عين الوحش تستل نعاسها من فتيان يافعين يربون إناثهم وطواويسهم في الظل.
هم ليسوا من هذا المكان، ولا من مكان آخر. إنهم مجانين الجنة، سقطوا سهواً في التضاريس، إذ كانوا يلعبون على الأرائك ويتراشقون بالرمان، أدخلوا السراب الماكر للفراديس السرية شرق العرش، أدخلوه على هيئة ضيف قليل الشأن، كي يسرق لهم الأسرار والاستعارات. سقطوا على الطريق ممتحنين بالطمث والمعنى.
الشعراء يشعلون أرواحهم ويخلعون عنهم كمين الماء.
إنهم يهيئون المعدن القادم للهباء.
3- وادي القديسين
ها أنذا رفيقك في مساقط الضوء واعتلال شجرك الأزرق تحت العتمة. وهبتني من لدنك سراً مباركاً واصطفيتني حارساً أضع زيتاً يقطر فضة في قنديلك الوردي. أمضي خفيفاً، وأتعثر بطائر فر من عرش محفوف بالعشب والماء. فراره بلا أثر. أتيتك هملاً من العلامات والأسانيد. لعلك تؤانس نومي، ترفعني من عروتي إليك. لقد سقط أكثرنا في الطريق مغلولين في منزلقات ضيقة مصفدين في هاوية تدحرجها جنية الماء. ها أنذا أعبر منحنيات جبلية متضرعاً أخلع ثيابي لأضعها على شجيرات التين الشوكي حارسة وادي القديسين، لم تخفني ذئاب الجبل وهي تطوف حول الوادي، ذئاب بها مس من النبوة، لم تشاهد شخصاً من قبل. في الهزيع الأول من الوادي التقطت محارة أخبرتني كيف تحجر النهر في روحي. ليس ثمة طرائد في الوادي أو ولائم لحيوانات الليل، ماعدا الشعر والسدر والسر ومائدة غامضة من الغضا. كانوا ممعنين في الدم، يجسون أحجاراً كريمة لها طبيعة رب بعيد. الغرانيق على أكتافهم غارقة بالمجازات والظل والمني السماوي. ساعة نادوني باسمي، انخسفت مياه متعفنة من تحتي وتدفقت شلالات الطفولة من جديد. كدت أتشقق شغفاً، أرهقتني شفرات البرق واشتعلت في داخلي علقة الخلود.