إن طرح إشكالية النص في كل مراحل الفكر الإنساني هي ضرورة فكرية عمقتها الفلسفات الدينية التي تنبع من النص ذاته، لذا فإن كل إشكالات الفكر العربي الإسلامي الراهنة والسالفة نتجت من النص أو من فهم النص.
أليس (الداعشي) الآن ينحر الإنسان باستلهام نص تاريخي يعتمد عليه؟!
أوليس الليبرالي الآن ينبع من نص سابق له سواء أكان معاصرا (فوكوياما) أم قديما (جون لوك)؟!
إني أعتقد أن إشكالاتنا العربية منبعها النص، وإلا ما الذي يُفارق بين الإسلامي والليبرالي؛ أليس موقفهم من النص؟! ما سبب التناحر على السلطة السياسية بين تيارات عربية سياسية؛ أليس سباقًا على جذب النص أو تنحيته؟! لذا فإني أؤمن بأن التعاطي مع نظريات النص بعمق وفهم لكل التيارات سيحيلهم إلى توافق واندماج أكثر ومن ثم إلى توافق سلوكي أرحب استقرارًا.
ومن هذا فإني أحاول عبر (مركزية النص) أن أفكر فيما تعاطاه المفكرون والفلاسفة قديمًا وحديثًا مع النص بالتأسيس لهذا العمل في سلسلة مقالات ستكون في جزأين، الجزء الأول منها يهتم بنظريات النص في الفكر العربي القديم، والجزء الثاني -الذي سيتأخر نشره- سيكون في نظريات النص المعاصرة. ولن أجزم بأني سأستوعب الموضوع تفصيليًا لكن حسبي أن يكون لبنة مشروع فكري لأيام لاحقة لي ولغيري من النص الكوني إلى النص المسطور:
إشكالية النص هي إشكالية دينية أكثر منها إشكالية فلسفية، لأن النص المقدس لا يمكن أن يكون عند غير الدينيين، وهو بمنأى عن الفلاسفة بالعموم -إذا استثنينا الفيلسوف الديني-، لذا فإن إشكالية النص لم تكن ظاهرة في الفلسفة القديمة لأنه لم يكن في بؤرة اهتمامهم في مرحلتهم الفلسفية بقدر ما كان اهتمامهم بالإله والطبيعة فيما بعد، وجاءت مشكلة النص مع تدوين النصوص الدينية المسيحية واليهودية والإسلام لأن النص عندهم موطن توقف ومن ثم تحويله إلى سلوك؛ فصار السلوك ينبع من تعاط مع النص وليس تفكيرا فلسفيا كما هو عند الفلاسفة القدماء، ونظرية الفضيلة عند أرسطو خير مثال حينما قال: إن الفضيلة وسط بين رذيلتين، فهو لم يستظهرها من نص مقدس، بل قاده تفكيره الفلسفي إليها.
وإن التحول من المشافهة التي تعتمد على الكونية إلى التنصيص أو الكتابة هو تحول يضع شيئًا ماديًا بين المرسل والمستقبل أو بين الخطاب والمُخاطَب (بفتح الطاء)، وهذا الشيء المادي تحول من الحجر والجلد إلى الورق حتى صار إلى الشاشة لكنه وسّع مجال المُخاطَب ليتحول من مُخاطَب شفهي بعينه موجود أمام المخاطِب إلى مُخاطَب عام غير معروف في أحيان كثيرة وهذه هي الجدلية التي بنى عليها (بول ريكور) نظريته في التأويل باعتبار أن الكتابة/النص يفتح مجالًا أرحب للتأويل من المشافهة/الكلام، بيْد أن الكتابة هي سبب رئيس للنسيان والاعتماد على ما هو مادي خارجي لا ذاتي داخلي في استحضار النص؛ لذا فإنه بحسب الأسطورة التي ترى أن اختراع الكتابة كان بسبب الإله تهيوت؛ وعندما سأله ملك مدينة طيبة عن سبب اختراعه للكتابة والحروف أجاب بأنه أراد الحكمة للمصريين وأراد لهم حفظ ذاكرة الأشياء، فأجابه الملك: بأن الكتابة سبب النسيان ولا أشد حفظًا للأشياء من الذات الداخلية بلا اعتماد على علامات خارجية. (كتاب نظرية التأويل بول ريكور ص73).
وحينما نعلم أن النص/اللغة أضحت منبعا للفلسفة في نهاية العصر الحداثي وما بعد الحداثي لتتكون نظريات نقدية عدة توُلِي النص اهتماما عبر التأويل وتتعاطى معه باعتبارات متنوعة تبدأ من التأويل وتنتهي بمكونات النص (النص، المؤلف، المتلقي)، وكلها نتجت منذ التفكير اللساني الذي أنشأه دو سوسير باعتبار اللغة علامات ورموز حتى تلقفه المفكرون والنقاد فيما بعد ليراوحوا بين مكونات النص الثلاثة بين البنيوية التي لا تهتم بغير النص ذاته، والسيميائية الغارقة في الرمزية، والتفكيكية التي جمعت بين السيميائية والبنيوية باعتبار النصوص دوال تحيل بعضها إلى بعض حتى نظرية التلقي التي حولت اهتمامها من النص إلى القارئ أو المتلقي، ولكل هاته النظريات تأثير فكري عميق في فهم النص، إذ إن كل نظرية تحيل إلى معنى قد لا يكون متوافقًا مع المدلول في النظرية الأخرى، بمعنى لو أننا طبقنا هاته النظريات جميعها على نص معين فإن نتائجها ستكون بعدد هاته النظريات وليست واحدة. والاهتمام بالنص في مرحلة نهاية الحداثة وما بعدها إنما هو اهتمام فكري فلسفي حتى وجدنا مِن المفكرين مَن تطرق إلى علاقة اللغة بالفكر كما عند تشومسكي. إذن؛ تحويل اللغة إلى إنتاج فكري بديلا من كونها انغلاقا فكريا كما في مراحل سالفة هو الفكر الغالب على المرحلة المابعد الحداثية؛ حتى رأينا من طبق هاته النظريات على النص الديني وليس النص الأدبي فحسب باعتباره غير مقدس، وذلك كما عند رولان بارت في كتابه (التحليل النصي- تطبيقات على التوراة والإنجيل والقصة القصيرة)، وكذلك عند غيره من النقاد العرب. كما فعل الغذامي مع آيات آدم وحواء في القرآن في كتابه
(الخطيئة والتكفير).
إن مرحلة تنصيص النص بمعنى توقيفه ليتحول هذا النص إلى مقدس يتعامل معه الإنسان بحذر وانتباه، ويتحول بالنسبة للمقدِّس (بالكسر) إلى نظرية معرفية ابستيمولوجيا يعتمد عليها في تفكيره وسلوكه، ويضحي هذا النص مسيطرًا على كينونة هذا الإنسان المتدين؛ فيتقدم النص المقدس على الزمكان، ويحوم حول إشكالية التوفيق بين العقل والنص وهي الإشكالية التي مرّت بها جميع الأديان/النصوص، فيمنح النصُ ذاته مركزيةً تطغى على كل نظريات المعرفة الأخرى.
إن الفيلسوف اللاديني يعتمد في فلسفته ونظريته المعرفية على ما هو خارج النص، فهو ضمن الفضاء الكوني حتى وإن اعتمد على العقل الذي هو الطرف الآخر المضاد للنص في الفلسفة الحديثة كما عند ديكارت وغيره. إذن؛ فإن التعامل مع النص هو تحول من الفضاء الكوني إلى النص المقدس المسطور؛ ومنه سيكتسب هذا النص تعاملًا تشوبه الخلافات لكنها جميعها تدور حول النص.