لاشك أن ثمة محاولات مستميتة أو محاولات بعد أن انفض السامر للكتابة حول ما يسمى (النقد الثقافي) وحول التنظير له أو التطبيق بناء على بعض مقولاته.
لن أستعرض تأريخاً للنقد الثقافي يستطيع أي قارئ أن يعرفه بكل سهولة ولكنني أشير إلى أن النقد الثقافي هو أحد تجليات ما بعد البينوية أو ما بعد الحداثة، وقد حاول الغذامي وغيره من النقاد العرب مواكبة التطور الحادث في الغرب منذ التسعينيات الميلادية في القرن المنصرم طمعاً في المواكبة في حد ذاتها وبحثا عن شيء آخر غير التفكيكية التي لم يستوعبوا بعدها الفلسفي النقدي في الوقت نفسه ولم يستطيعوا اتخاذها وسيلة لنقد النص العربي لأنها تنطلق من فضاء نصي أوروبي مركزي تعمل على تفكيكه فلسفياً، لاشك أن النقد الأدبي أفاد من بعض المقولات التفكيكية ولكنه لم يطق البقاء في ثوب مستعار، أو ثوب لا أكمام له ففضل البعض البحث عن أفق آخر لما بعد بنيويته وكان الذي لاح هو عنوان كتاب بمسمى (النقد الثقافي) لفنسنت ليتش وكان الذي شدهم إلى ما يسمى النقد الثقافي هو قدرتهم على فهم أطره واستيعابها من غير استصحاب للجذور الفلسفية؛ إذ ليتش براقماتي النزعة ومن عادات الأمريكيين أن يهتموا بفائدة الدراسة أكثر من فلسفة الدراسة أو أصولها أو نظرياتها، وهذا لا شك يلائم السلفيين والتوفيقيين وأنصاف التراثيين الذين يحاولون عادة ترقيع ما لديهم برقع مختلفات طمعاً في ستر العورة الثقافية المغلظة وهي توقف الفكر والثقافة عن الحياة وتوقف القلب الثقافي عن ضخ الدماء النقية إلى أعضاء الجسم الكبير منذ فترة وليست الحال إلا كمريض يعيش على المسكنات انتظاراً للموت أو لكارثة ما.
فالنقد الثقافي لدينا ليس إلا نقداً يمكن فيه استعمال أي فكرة ما بعد حداثية وتوظيفها في نقد جزئيات هامشية للحياة التي تتم في إطار نص مرجعي واحد لا يمكن المساس به ولا يمكن البدء بعمليات مفتوحة لمعالجات انسدادات شرايينه وأوردته ولذا تجد النقاد الثقافيين لا يملكون الجرأة لمعالجة خطابات السلطة التي نقطة مركزية في الدراسات الخطابية الغربية ولا معالجات قضايا العنصرية ولا معالجة ولا غير ذلك من القضايا التي يمكن معالجتها في مناخات مفتوحة وحرة كأوروبا في حين لا يمكن بيسر معالجتها في الإطار العربي.
ولذا فما سمي بالنقد الثقافي مناسب للهروبيين الذي لا يستطيعون الوقوف وجها لوجه أمام أسئلة الفلسفة الكبرى ولذا بدأ التطبيل لسطحية هذا النقد الملفق الذي أصبح يفتقد فقدا واضحاً الناحية العلمية والناحية الفلسفية والناحية الأدبية، وأصبح أشبه بمقالات سطحية تستعين ببعض أدوات ما بعد الحداثة وتوظفها دون جامع يلم شتاتها ودون نظرية واضحة تنطلق منها.
لم تكن الدراسات الثقافية في ارتباطها بدراسات الاستعمار إلا استمرارا للدرس الفيلولوجي والدرس الإنثروبولوجي الذي ليس في الغالب سوى سرية استطلاعية قامت الإمبريالية باعتمادها لتسهيل أعمال الغزو والسلب والنهب الاستعماري والحضاري للشعوب الأخرى ثم تراجعت أمثال تلك الدراسات أو قلت مع موجات الاستقلال، و ما الدراسات الثقافية ومنها كتاب النقد الثقافي الذي ظهر بأثرة منها إلا تمهيد للدراسات الخطابية الموظفة التي ظهرت بعد ذلك في مدارس تحليل الخطاب وتحليل الخطاب النقد أو (التحليل النقدي للخطاب) الذي يستعمل الأدوات اللسانية في نقد المجتمع ونقد الخطابات التي تحرك المجتمعات على مستوى المركزية الغربية، وبالمقابل ظهرت دراسات ما بعد الكولونيالية ودراسات التابع كمنطلق لفضح الهيمنة الغربية والرؤية المركزية الأوربية، ولكنها لم تكن بمستوى دراسات تحليل الخطاب النقدي من حيث التأسيس الفلسفي والنظري وصارت لا تختلف عن ما يسمى النقد الثقافي كثيرا.
ما أود قوله إن بارت ودريدا وفوكو وبورديار وغيرهم من المصادر الما بعد بنيوية لهم نظريات خاصة بهم تنطلق من منطلقات فلسفية ولا تختلف عنهم مدرسة فرانكفورت ذات الاتجاه الفلسفي النقدي، ولكن نقادنا الحاليون لا نظريات خاصة بهم، ولا منطلقات فلسفية ينطلقون منها هم يعتمدون على أقوال وملتقطات يلتقطونها من هنا أو هنالك.
لقد كان سعيد علوش محقاً في وصف مشروع عبدالله الغذامي في النقد الثقافي بأنه نقد سلفي وأنه لا قيمة له كبرى لا في الناحية التنظيرية ولا في الناحية التطبيقية، ولكننا نضيف أن مسمى النقد الثقافي برمته لا وجود له وليس نظرية ولا اتجاها هو مجرد خروج النقاد الأدبيين للبحث عن الضوء لدينا وهو فترة انتقالية إلى تحليل الخطاب النقدي في الغرب الذي صار جزءا من الدراسات الخطابية اللسانية التي ينطلق بعضها من منطلقات فلسفية وينطلق بعضها من توظيف برقماتي نفعي لأدوات مختلفة من اللسانيات لتوظيفها في دراسة خطابات المجتمعات الغربية. ويقوم على هذه الدراسات الخطابية اللسانيون وأقسام اللسانيات وبعض المراكز المهتمة بالأدوات اللسانية في نقد المجتمع.
أما النقاد الأدبيون فمازالوا في الجامعات الغربية يبحثون في الجمالية وفي الأسلوب المابعد حداثي ويحاولون أن يكتشفوا لماذا بعض النصوص ممتعة وجميلة من خلال نظريات مختلفة وما زالوا يطورون نظرتهم وخصوصا في الدراسات السردية إلى تحليل الخطابات السردية من منطلقات نقدية أدبية أو من منطلقات خطابية.
أما النقاد الأدبيون لدينا فهم يحاولون فاشلين أن ينافسوا المبدعين على إبداعهم ويحاولون أن يبتزوا اللسانيين أدواتهم للعيش في متاهة يدعونها النقد الثقافي ليست علماً ولا نظرية ولا أدباً ولا فلسفة ولا لسانيات.
والحال هذه فإن مما ينبغي علينا هو أن نبحث عن تطورنا الإبستمولوجي أو العلومي بعيداً عن مسارات التطور الغربي فللغرب مساراته ولنا مساراتنا، ولكن ضمن أسس فلسفية وضمن إطارات نظرية وضمن خطابات مجتمعاتنا نحن بفرض قطيعة التناسي ( والتناسي هي أداة قصدية تختلف عن النسيان تهدف إلى تحقيق قطيعة مع الماضي بعد الامتلاء به.. إنها تفريغ متعمد لكل ما لايفيد في الماضي واستعمال بعض الماضي كأداة في الانتقال أو في تأسيس وضع جديد أو عدم استعماله مطلقا للانتقال إلى وضع جديد مغاير له وما سبق لا يعني التخلص من التراث)، ثم القيام بمواجهة مشكلاتنا بجرأة والانطلاق في كل دراساتنا من مواجهة تلك المشكلات لاجتلاب مسميات لعلوم لا وجود لها على أرض الواقع لدراسة غير علمية لهامشيات هدفها التغطية على مشكلاتنا الرئيسة لا غير.. ..
والخلاصة أن ما يقدمه كاتبو النقد الثقافي لا يتعدى ما يكتبه الصحفيون السطحيون من انطباعات ومن تسويد الصفحات بثرثرة لا قيمة لها ولا وظيفة لها سوى التمسك بحالة الفراغ الفلسفي والمعرفي والنقدي التي نعيشها.