أشرت في نهاية مقالي السابق «الرطانة» إلى قاعدة أئمة اللغة العربية - رحمة الله عليهم - في تغيير الكلم الأعجمية عند نقلها: «أعجمي فالعب به»؛ لتوافق موازين العربية ولهجاتها، وأن التقعُّرَ والتكلّفَ في نُطْق المفردة الأعجمية - إن كان حديثه بالعربية - والإتيانَ بنبرتها الدخيلة من أمارات المهانة النفسية، والاستهانة بلغة القرآن.
إن من حماية الأئمة للغة القرآن أن ضبطوا موازين اللغة، وحفظوا لهجات العرب، ولم يُدخلوا في كتبهم وألسنتهم لفظة أعجمية - مُعرَّبةً أو دَخِيْلَةً - إلا بعد مرورها على المواصفات والمقاييس، فيلجأون - وهم في غاية الثقة والطمأنينة - إلى تبديل اللفظة الأعجمية لتوافقهم، لا لتبديل لسانهم موافقة للعُجمة ! وفي زماننا نشاهد العكس، والفرق بينهما كما بين العزة والذلة!
قال الشيخ العلامة د. بكر أبو زيد - رحمه الله - في « فقه النوازل» (1 / 182): (وإن العلماء في لغة العرب - شكر الله سعيهم - قد بذلوا جهوداً مكثَّفةً في القديم والحديث، فأنشأوا سدوداً منيعةً، وحصوناً حصينة للغة القرآن عن عوادي الهجنة والدخيل، ويظهر ذلك في المجامع - وهي كُثُر - ، وفي كتب الملاحن - وهي أكثر - ، فدبَّ يراعهم، وسالت سوابق أقلامهم، وانتشرت سوابح أفكارهم في نقض الدخيل، ونفي المقرف الهجين، فحمى الله ـ سبحان هـ اللغةَ حِمايةً لكتابه...).
وإلى شذرات من نصوص الأئمة والأكابر، حول القاعدة الشهيرة، وفي كل نص زيادة معنى:
1 - قال ابن السرَّاج (ت 316 هـ ) في «الأصول في النحو» (3 / 223 - 224) - ط. الرسالة - : (الكلامُ الأعجمي يخالفُ العربي في اللفظِ كثيراً، ومخالفتهُ على ضربينِ: أَحدهُما: مخالفةُ البناءِ. والآخرُ: مخالفةُ الحروفِ. فَأَمَّا ما خالفَ حروفهُ حروفَ العربِ فإنَّ العربَ تبدلهُ بحروفها ولا تنطقُ بسِواها، وأَمَّا البناءُ.... وربما غيروا الحرفَ العربي بحرفٍ غيرهِ؛ لأَنَّ الأصلَ أَعجمي... إلى أن قال: والعربُ تخلطُ فيما ليسَ من كلامِها إذا احتاجت إلى النطقِ بهِ، فإذَا حُكِي لكَ في الأعجمي خلافُ ما العامةُ عليه، فلا تَريَنَّهُ تخليطَاً مِمَّنْ يَرويهِ).
2 - وقال ابن خالويه (ت 370هـ ) في «الحجة في القراءات السبع» (ص 89) بعد أن ذكر اللغات في « إبراهيم»: (وقد عرَّفتُكَ اتساع العرب في الأسماء الأعجمية إذا عرَّبتْها).
3 - وقال ابن جني (ت 392 هـ ) في «الخصائص» (1 / 360): قال أبو علي - أي الفارسي - : (ولكن العرب إذا اشتقت من الأعجمي خلطت فيه). وقال أيضاً في «المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها» (1 / 80): (... فذلك من تخليط العرب في الاسم الأعجمي. وقال أبو علي: العرب إذا نطقت بالأعجمي خلَّطت فيه.
وقال أيضاً (2 / 225) قال أبو الفتح: أما ما رواه ابن مجاهد عن ابن مسعود من «إدْرِيسَ» و»إدْرَاسِينَ» فيجب أن يكون من تحريف العرب الكلمَ الأعجمي؛ لأنه ليس من لغتها، فَتُقِلُّ الحَفْل به، وقد ذكرنا مثله.
وجاء بلفظ فتلعبت به في الموضع التالي: (2 / 249): (فأما الخلاف الذي في باب جبريل، وإسرافيل، وميكائيل، وإبراهيم، ونحو ذلك فالعذر فيها أنها أسماء أعجمية، ولام التعريف لا تدخلها؛ فبعدت عن أصول كلام العرب، واجترأت عليه وتلعبت بها لفظاً، تارة كذا، وأخرى كذا).
وانظر أيضاً لابن جني: « المحتسب» (1 / 98)، و»المبهج في تفسير أسماء شعراء ديوان الحماسة» (ص 57).
4 - قال الجوهري (ت 393هـ ) في «الصحاح « (1 / 179): وتعريب الاسم الأعجميِّ: أن تتفوَّه به العربُ على مِنهاجها.
5 - قال ابن فارس (ت 395 هـ ) في «الصاحبي» (ص 54): (حدَّثني علي بن أحمد الصباحي قال: سمعتُ ابنَ دريد يقول: حروفٌ لا تتكلمُ العرب بها إلا ضرورة فإذا اضطروا إليها حوَّلوها عند التكلم بها إلى أقرب الحروف من مخارجها وذلك كالحرف الذي بين الباء والفاء مثل: بور. إذا اضطروا قالوا: فُور.
قال ابن فارس: وهذا صحيحٌ؛ لأن بور ليس من كلام العرب، فلذلك يَحتاج العربي عند تعريبه إياه أن يصيِّره فاء). ونقله السيوطي في»المزهر» (1 / 272)
6 - قال ابن سيده (ت 458 هـ ) في «المحكم» (7 / 586): (ولكنَّ العَرب إذا اشتقَّتْ من الأعجمي؛ خلَّطَت فيه).
7 - قال الجواليقي (ت 540 هـ ) في «المعرَّب» - ط. شاكر - (ص 6): (باب معرفة العرب في استعمال الأعجمي. اعلم أنهم كثيراً ما يجترئون على تغيير الأسماء الأعجمية إذا استعملوها، فيبدلون الحروف التي ليست من حروفهم إلى أقربها مخرجاً، وربما أبدلوا ما بعد مخرجه أيضاً والإبدال لازم؛ لئلا يُدخِلوا في كلامهم ما ليس من حروفهم...).
8 - وقال سلامة الأنباري (ت 590 هـ ) في «شرح المقامات» كما في «المزهر» للسيوطي (1 / 293): (كثيراً ما تغيِّر العربُ الأسماءَ الأعْجَمية إذا استعملتَها).
9 - قال العكبري (ت 616 هـ ) في «شرح ديوان المتنبي» (3 / 102): (والاسم الأعجمي إذا وقع إلى العرب غيَّرتْه).
10 - قال القرطبي (ت 671 هـ ) في «تفسيره» (1 / 432): [ قوله تعالى: (والذين هادوا) معناه: صاروا يهودا، نسبوا إلى يهوذا وهو أكبر ولد يعقوب عليه السلام، فقلَبت العربُ الذال دالا؛ لأن الأعجمية إذا عُرِّبت غُيِّرت عن لفظها ].
11 - قال الرضي محمد الاستراباذي (ت 688 هـ ) في «شرحه على كافية ابن الحاجب» (1 / 132) - ط. جامعة قاريونس - : (.. ولذلك قالوا: أعجميٌّ فالْعَبْ به ما شئت).
12 - قال أبو حيان (ت 745 هـ ) في «البحر المحيط» (1 / 509) في حديثه عن اسم (جبريل): (وقد تصرفت فيه العرب على عادتها في تغيير الأسماء الأعجمية، حتى بلغت فيه إلى ثلاث عشرة لغة).
13 - قال ابن القيم الجوزية (ت 751 هـ ) في « جلاء الأفهام» - ط. مشهور سلمان - (ص 322) لما ذكر إلياس وآل ياسين والكلام حوله: (ولا سيما عادة العرب في استعمالها للاسم الأعجمي، وتغييرها له، فيقولون مرة: إلياسين، ومرة إلياس، ومرة ياسين، وربما قالوا: ياس...).
14 - قال ابن حجر (ت 852 هـ ) في فتح الباري (9 / 532): (الاسم الأعجمي إذا نطقت به العرب لم تبقه على أصله غالباً).
15 - وقال العصام إبراهيم بن محمد الاسفرائيني من علماء البلاغة (ت 951 هـ ): (وللعرب التصرف في ألفاظ العجم، ولهذا يقال: هو أعجمي فالعب به ما شئت). نقله عنه المحبي (ت 1111 هـ ) في «نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة» - ط. البابي الحلبي - (2 / 587). وانظر: «حاشية الشهاب الخفاجى على البيضاوى» (5 / 152).
16 - قال محمد الطاهر عاشور (ت 1393 هـ ) في «التحرير والتنوير» (7 / 182)، و(15 / 98): (ومن أقوالهم وأمثالهم: أعجميٌّ فالْعَب به).
17 - قال الرافعي (ت 1356 هـ ) في «تاريخ آداب العرب» (1 / 201) عند حديثه عن الدَّخِيل في اللغة: (وبالجملة، فإنهم لم يتناولوا اسماً من أسماء الأجناس أو الأعلام إلا غيَّروه متى كان فيه ما ليس من حروفهم، وربما عادوا فغيروا في الحروف العربية أيضاً، وتصرَّفوا في الكلمة بالحذف والزيادة، مبالغةً في تحقيق الجنسية اللغوية؛ أما إن كانت حروف الاسم الأعجمي من جنس حروفهم فقد يتركونه على حاله، نحو: خُراسان؛ إِذْ ليس في أبنيتهم فُعَالان، وخُرَّم ألحقوه ببِناء سُلَّم.
فموضع التصرُّف كما رأيت إنما هو في حروف الكلمة، حتى تخرج على وجه من الوجوه العربية الفطرية، التي لا يُراعى فيها غيرُ الخِفَّة والثقل، وليس غير الحرف اللفظي ما يغمز مواضع الإحساس من ألسنتهم، كما فصلناه في بابه...). وذكر في (1 / 204) مسألة نادرة في استعمال الدخيل مع وجود الرديف العربي، وكل ما جمعوه منها نيّف وعشرون لفظة.
18 - انتقد أحمد شاكر (ت 1377 هـ ) في مقدمة تحقيقه لكتاب «المُعرَّب» للجواليقي قرارات «مجمع اللغة العربية في مصر» في مسائل التعريب، وكان ذلك في ذي الحجة (سنة 1360 هـ )، قال - رحمه الله في (ص 18): (والقارئُ لقرارات الأعلام التي أقرَّها المجمع، يرى فيها معنى واحداً يجمعها، وروحاً واحداً يسيطر عليها: الحرص على أن ينطق أبناء العربية بالأعلام التي ينقلون إلى لغتهم بالحروف التي ينطقها بها أهلوها، وقسْرِ اللسانِ العربي على ارتضاخ كلِّ لَكْنَةٍ أعجمية لامِثال لها في حروف العرَب، وتسجيل هذه الغرائب من الحروف برموز اصطلاحية تَدْخُل على الرسم العربي، تزَيُّدَاً في الحروف وتكَثُّراً ........ وذكر كلامَاً رائِعَاً، ثم قال في آخر (ص 19): فإذا أردنا أن نضع قاعدةً لِتَعريب الأعلام على مثال لغة العرب، وجب أن نستقصي كل عَلَمٍ أعجميٍ نطق به العرب، وماذا كان أصله في لغة أهله، وماذا صنع فيه العرب حين نقلوه؛ لنأخذ من ذلك معنى جامعاً لِصُنعِهم، يكون أساساً لما نضع من قاعدة أو قواعد، وأكثر الأعلام التي نقل العرب، وأوثقها نقلاً، ما جاء في القرآن الكريم من أسماء الأنبياء وغيرهم، فلو شئنا أن نُخرج منها معنى واحداً تشترك كلُّها فيه، بالاستقصاء التام، والاستيعاب الكامل، وجدنا فيها معنى لا يخرج عنه اسمٌ منها، وهو: (أن الأعلام الأجنبية تُنقل إلى العربية مغيَّرةً في الحروف والأوزان، إلى حروف العرب وحدها، وإلى أوزان كلمهم أو مايقاربها، وأنها لا تنقل أبداً كما ينطقها أهلها)، فهذا الاستقصاء والاستيعاب يُخرج إذن قاعدة على النقيض من القواعد التي قررها المجمع اللغوي...... إلخ.
فائدة (1): للأستاذ: خالد بن سعود العصيمي رسالة ماجستير عام 1419 هـ بعنوان «القرارات النحوية والتصريفية لمجمع اللغة العربية بالقاهرة جمعاً ودراسة وتقويماً إلى نهاية الدورة الحادية والستين عام 1415 هـ»، وقد طبعت في دار التدمرية عام 1423 هـ في مجلد (813 صفحة).
فائدة (2): قال خالد الأزهري (ت 905 هـ ) في «التصريح على التوضيح» - ط. عبد الفتاح - (5 / 16): (والفرق بين المعرَّب وغيرِه: أن العربَ إذا استعملَتْ الأعجميَّ، فإنَّ خالفت بين ألفاظه فقد عرَّبتْه، وإلا فلا).
وللفرق بين المعرَّب والدخيل والأعجمي، ينظر: «تداخل الأصول اللغوية» د. الصاعدي (2 / 676).
فائدة (3): علَّق د. رمضان عبد التواب في «بحوث ومقالات في اللغة» (ص 186) على قرار مجمع اللغة: (يجيز المجمع أن يستعمل بعض الألفاظ الأعجمية عند الضرورة، على طريقة: العرب في تعريبهم).
فقال: (وفي رأيي أن اللغة لا تفسد بالدخيل بل حياتها في هضم هذا الدخيل؛ لأن مقدرة لغة ما على تمثُّل الكلام الأجنبي، تُعَدّ مزيَّة وخصيصة لها إْن هي صاغته على أوزانها، وصبَّتْهُ في قوالبها، ونفخت فيه من روحها.
والحقُّ أن مشكلة تعريب ألفاظ العلم ومستحدثات الحضارة، هي مشكلتنا الحقيقية في العصر الحديث. ومجامعنا العلمية لم تستطع حتى الآن معالجة هذه المشكلة معالجة حاسمة، فإنها تنتظر حتى يشيع اللفظ الأجنبي على كل لسان، وتستخدمه العامة والخاصة، وتنشره وسائل الأعلام المختلفة، ثم تسعى بعد فوات الأوان إلى محاربته، والبحث عن بديل له عند العرب القدماء، وبذلك يُولد هذا اللفظ ميتاً، لاشتهار اللفظ الأعجمي، وشيوعه على الألسنة.
وكم من ألفاظ وضعتها المجامع اللغوية لمستحدثات الحضارة، غير أنها لم تتجاوز أبواب هذه المجامع، فمثلا: «المذياع» للراديو، و»المأوى» للوكاندة، و»الخيالة» للسينما و»الطارمة» للكشك، و»الملوحة» للسيمافور، و»المرناة» للتليفزيون، وغير ذلك من الألفاظ، ولدت ميتة لهذا السبب الذي ذكرته.
ولو أننا سمَّينا مستحدثات الحضارة بأسماء عربية، واصطلحنا على هذه التسمية أو تلك، عند أول ظهور هذا المستحدث الحضاري أو ذاك، وعملت وسائل الإعلام المختلفة عندنا، على ذيوعه وانتشاره، لارتبط في أذهان الناس بمسماه، وقضينا على هذه المشكلة من أساسها.
وإنك لتعجب حين ترى الألمان يقومون في لغتهم بمثل ما ننادي به هنا، فمعظم المخترعات الأجنبية لها عندهم أسماء ألمانية خالصة. وفي قدرتنا النسج على هذا المنوال للحفاظ على عروبة لغتنا، أمام هذا الغزو الهائل من الألفاظ الأجنبية، وفي ذلك حياة للغة، وتجديد لشبابها). انتهى كلام د. رمضان.
- وقد علق الأمير الشهابي على قيد «الضرورة» الوارد في قرار المجمع بقوله: (أرى أن قيد «الضرورة» الذي وضعه المجمع للتعريب هو ضرورة، أقول هذا لأنني عارف بسخافات بعض أساتيذ العلوم الحديثة، الذين عرَّبوا ألفاظاً علمية أعجمية، كان في استطاعتهم أن يجدوا لها ألفاظاً عربية مقبولة بقليل من الجهد، ومن المعرفة بأصول تلك الألفاظ الأعجمية وبمعانيها). «المصطلحات العلمية» (ص 63)، أفاده د. صبحي الصالح في كتابه «دراسات في فقه اللغة» (ص 321).
أما بعد
فهذا الطواف حول الموضوع يُمثِّلُ مقدمةً وتمهيداً؛ ليتحدث حول القضية أهلُ الاختصاص، بفصولٍ تأخذ رقابَ فصول أخرى، تنتقل من الكلام إلى الفِعال، ومن المجالس إلى المجامع، فلغتنا مجمعُ المحاسن، ولهجاتنا مفصَّلةٌ على ألسنتنا، وأسماعنا العربية تريد مقاييسنا العربية، ونبرات اللسان من نبرات القلب، فما يخفيه المرء تظهره فلتات اللسان، والله المستعان.