(1)
- اعتاد أستاذُنا الدكتور عبدالله الغذامي الدقةَ الصارمةَ في مواعيدِ سفره وجداول التزاماته، وكنا - القريبين منه- نعلمُ أن له رحلتين صيفيةً إلى بريطانيا وشتويةً إلى دبي، ونادرًا ما يغادر الرياض إلا أيامًا يسيرةً استجابةً لدعوةٍ علميةٍ تقتصر - في الفترة الأخيرة- على ما يلقيه من محاضرات كان آخرها محاضرة نادي أبها حول «الصحوة» التي ننتظر كتابَه عنها.
- عاد من «أبها» فاستقبل صاحبكم اتصالًا منه أبلغه فيه اعتذارَه عن شهود جلستين أسبوعيتين منتظمتين تجمعُهما وتصور أن السببَ وعثاءُ السفر؛ فقد ألِفنا التجاءَه إلى الراحةِ عقب كلِّ التزامٍ يُضطرّه إلى تغيير مواعيد نومه الدقيقة؛ فلم يعتد السهر ليلتين متواليتين.
- فاجأه بإبلاغه عزمَه على السفر تلك الليلة فسأله: إلى أين ؟ قال: إلى بريطانيا! .. وأسرَّ في نفسه: ولكننا قرب الشتاء! واستفهم عن العودة فردّ: بعد ثلاثة إلى أربعة أشهر، فافترض أنها دعوةٌ علمية عرف بعدها أنها «رِفقةٌ علمية».
- ودَّع أستاذه وصديقَه ودعا له بطيبِ الإقامة حيثما كان، وتواصل معه عبر البريدِ الآليِّ الذي يستقبل عليه «توريقاته»، وسارت الأمور مطمئنةً فالوسائلُ الإلكترونيةُ وثيقةٌ ودقيقة والوسائطُ مع شقيقه (صالح) - الذي هو صديقُ عمرٍ لصاحبكم- ممدودة، وطرأَ ما يدعو إلى اتصالٍ عاجلٍ تزامن مع تكريم أستاذنا في جمعية المتقاعدين بالرياض بصفته «رائد النقد والأدب» ؛فبعث إليه برسالة اشتياق وتلقى منه ردَّ إقلاق، وهنا لا مكانَ لراوٍ يقُصُّ بل لكلماتٍ تنُص:
(2)
- كتب صاحبكم إلى صاحبه يوم الجمعة 31 تشرين أول - أكتوبر (7 -1-1436هـ):
(أسعد الله أمسيتك أستاذي وصديقي أبا غادة وأرجو أن تكون بخير مع من تحب، اشتقنا لرؤيتك فعسى ألا يطول غيابك كما الجميع في جلستي الأربعاء والجمعة يهدونك تحياتهم ..)
- رد «الغذامي» يوم الإثنين الثالث من تشرين ثاني - نوفمبر (العاشر من شهر الله المحرم):
(شكرًا على كريم سؤالك وسؤال الأحبة في الجلستين ... أما أنا فإني مقبل على عملية استئصال الكلية اليمنى، يوم الجمعة بحول الله، وإني أقبل عليها مستشعرًا أني بظل من ظلال الرحمن، هي عملية لم تكن لتخطر على بال أحد، لا أنا ولا أطبائي، وصارت في لحظة يتعجب منها كل طبيب قابلته في لندن، كنت أفحص عن فتق بسيط أسفل البطن ولم يبرز بعد، وفي كلمة عابرة قال لي الطبيب سأطلب صورة إشعاعية لجهاز البطن، ودون حس مني قلت له: طيب، وما زال هذا الطبيب يقابلني في الردهات ويردد علي القول إنه في ممارسته الطبية كلها لم يطلب من مرضاه فحصًا لم ينشأ له سبب ولم يطلبه المريض، وهو ما يردده الآخرون كلما تابعوا موضوعي، لقد تكشف أن لدي ورمًا في الكلية اليمنى منزويًا دون أي مؤشرات،وتكشَّف بمحض الحظ العجيب .هو عجيب عندهم أما أنا فإني أعرف أنها نفحة ربانية دفعتني لأن أقبل فكرة الفحص وكأني مخدر الذهن، فلا سبب يدعو له وأنا الذي فحصت في الرياض فحصًا كاملا، وكله سليم، وليس عندي سوى فتق بسيط وأمره هين، يقول الأطباء لو مرَّ شهران آخران فإن الورم سيخرج خارج الكلية ويعلن عن نفسه ويبدأ في الانتشار. هكذا هي النفحة الربانية حين تلتقطك قبل أن تدلف قدمك باتجاه الهاوية. كشف يتعجب منه الأطباء، وأعرفه أنا: الله أكبر، كم هو عظيم أن تشعر أن ربك يحبك ..أرجو نقل خبري للأحبة مع شكري لهم.
بقي أن أقول إن لي ثلاثة طلبات منكم:
الأول : تعرفه قلوبكم، وأسأل الرحمن أن يشملكم بمحبته ونفحاته.
والثاني : كما تعلمون فبريطانيا مليئة بالمبتعثين ممن بيني وبينهم معزة وتواصل ولو علموا بوجودي فسيزورونني، وأنا لست في وضع يحتمل الزيارات، ولذا تجنبت دوما التلميح إلى وجودي في بريطانيا،ما أرجوه منكم هو مساعدتي في تجنب ذكر مكاني لكي أبقى على خلوتي مع نفسي، ولكم الشكر.
الثالث: لا أريد للأمر أن يخرج إلى وسائل الإعلام، بكل صيغه، وأريده أن يبقى في الدوائر الخاصة بعيدًا عن الإعلام.
تحياتي لكم وأسأل الله أن ينفحكم بنفحاته، وكم هو عظيم أن تشعر أن ربك يحبك).
(3)
- هزةٌ قاسيةٌ جدًا وجد صاحبُكم نفسه في دائرةٍ بل دوار جعله يكتب إليه في الساعة نفسها:
(أستاذي وصديقي الأعز أبا غادة
سلام واشتياق ودعاء
قبل أن «ألتصق» بك (وهذا فعل ماضٍ بصيغة الدوام ووسامٌ أوحدُ قلدتُه نفسي بنفسي) رأيتك في «مُطلَّة(1)» وتحدثوا حينها عن أحدٍ صنع معروفًا ولفت نظري تعليق سريع منك استعرتُه وما أزال : (يلقاهْ عند ربه) فقد أوحت لي بإيمانٍ عميقٍ يسكن قلبك ومشاعرك وصارت لازمةً في مفرداتي فما نلقاه عند الله هو ما يقينا كرب اليوم ويرقينا من قلق الغد.
أشياءُ كثيرة افتقدت طعمها وأنا أتأمل مقعدك الخالي والغالي «من غير شر» وأتساءل عن موعد عودتك .. وكنت أعزي نفسي بعد سفرك - لا حرمني الله منك - فكتبت في زاويتي الخميسية المعنونة: «مجالس بل مدارس» : (... ويُشرق الدكتور عبدالله الغذامي في جلساتنا فهو العالِمُ العاملُ المتزنُ الثقةُ القادرُ على المزج بين الجديةِ والترفيه بروحٍ لا يجيدُها سواه)
جلسات وليس سوى أبي غادة لها فلك في القلب مكان وفي العقل مكانة لايعدلهما كتابة ولا كتاب .. تعلمت منك شدة البأس ومواجهة الشدائد واثقًا بالله فهو «معك و معنا» اليوم وأمس وغدًا .. وسنلقى جزاءنا عنده .. فأنت من قال ... وأنا من يدعوه -جل شأنه- في «يوم عاشوراءَ صائم»: أن يمدك بصحة تامة ويجمع لك الأجر والعافية ويجعل ما ألم بك طهورًا ونورًا .. فيااااارب .. ياااارب .. يااااارب ..
ابقَ بخير كي أمسح دموعي بابتسامتك وأدرأ ضعفي بقوتك وأعزز اشتياقي برؤيتك تضيء بك المجالس والمدارس ؛ لا أراك الله مكروهًا .. أرجوك طمئنِّي كلما تمكنت).
(4)
- كما عهدناه كبيرًا في صحته فقد ألفيناه شامخًا في مرضه إذ صادر القلق من داخله وإن لم ينفه من دواخلنا ،فجاء جوابه في اليوم نفسه: (الحمد لله رب العالمين، أنا شخصيًا لست قلقًا ..لقد تقابلت مع إيماني وجهًا لوجه، فرأيت أنوار الرحمن فعلمت أني بخير ...وما عدا هذا تفاصيل .. ما أعظمها أن تشعر أن ربك يحبك)
أيقن صاحبكم أن المريض هو من يراقب السرير لا من يرقد فوقه، ومن يتابع الحالةَ لا من يعيشُها ، ومرت لحظة استذكار حين ترافقا – قبل سنوات - لزيارة الدكتورة فوزية أبو خالد خلال استشفائها بمدينة الملك فهد الطبية فكانت تواسي خوفنا عليها وتداري آلامها عنا، وحين خرجنا منها قال أبو غادة: إن في هذا المرض سرًا علويًا يُشع الراحة في أعماق مصابيه؛ وقد صدق؛ فهاهما أنموذجان للثقة بما عند الله والتوكل عليه وحده.
توالت الرسائل المتبادلة بما يعادل كتيِّبًا وكانت مشاعلَ أضاءت بالخوف والرجاء وفيها عبارةٌ مؤثرةٌ كتبها أستاذنا لحظةَ صفاء عقب موقف دعاء مؤثر غير متوقع:
(لو كانت الدموعُ تترحل لوصلتكم قبل كلماتي)
(5)
- كذا يصهرنا الألمُ فنستعيدُ ضعفنا «الجميل» وتنوب العينُ عن البيان ؛ فلنكتفِ بهذه «المجتزءات من خمس رسائل عفويةٍ» تختصرُ تفاصيلَ يصعبُ اختزانُها ومشاعر يستحيل اختزالُها ولحظات ترقبٍ وأيامَ انتظار؛ فالحمدُ لله أن قدَّر والشكر له أن يسَّر وأهلًا بعودةِ الغائب الحاضر حيثما وأينما كان.
** ** **
(1) مُطِلَّة مزرعة ومجلس أستاذنا عبدالرحمن البطحي رحمه الله (1357-1427هـ)