ربما من أجل هذا، يأتي المبدع الرائع الصديق عبد العزيز الصقعبي، ليفرض حضوره البهي لمرة ثانية، ويكون هو ونتاجه الإبداعي هاجساً لسطور هذه الزاوية، وربما لا آتي بجديد إذا قلت، إن هذا الفنان م-تعدد المواهب في حقل السرد، كتب أنواعاً متعددة من الأجناس الفنية، بداية بكتابة القصة القصيرة، والقصيرة جداً، ويُعدُ أحد كتّابها المعدودين البارعين، والكتابة للمسرح شاقة ومضنية وشائكة، ويندر كتّابها الذين يجيدون هذا الفن في العالم العربي، ولكنه كتب للفن المسرحي للتجريب مبكراً، ليؤكد تميُّز الفنان الباحث عن عوالم للتجريب، إذا شارك ليملأ الفراغ أسرة المسرح، وتأصيل نشاطها العريق في مدينة الطائف، بالكتابة للمسرح فترة قصيرة في بداية حياته الكتابية، وذلك أثناء وجوده في هذه المدينة، لينهض مع المهتمين بهذا النشاط الفني، رغم المعوقات التي تواجه هذا الجنس الفني في بلادنا.
ولأن عبد العزيز يعي تماماً، أن الرواية هي الفن الشامل الذي يحتوي على كل الأجناس الأدبية، ويدخل في نسيجها كل الأجناس الأدبية الأخرى، وتتشكّلُ من اليومي والتاريخي والسياسي والديني والأساطير، وتلامس فنوناً أخرى كالقصة والشعر والفلكلور والمسرح، لأنها تعبر في النهاية عن حركة مجتمع، وهذا ما سنلامسه في مشروعه الروائي، فقد بادر بإصدار أولى بواكير أعماله الروائية، رواية رائحة الفحم في فترة مبكرة لهذا الانفجار الكتابي الروائي، والطفرة التي نشهدها في الكتابة الروائية، وكان لي شرف ملازمة إصدار رواية (ريحانة) في تلك الفترة، ومثلي فعل الزميل الصديق الدكتور ناصر الجاسم، وكتب روايته اليتيمة (الغصن اليتيم) ليعود إلى القصة القصيرة، ميدان عشقه إلى جانب النقد الروائي، وقدم ناصر لنا في تلك الرواية شخصية أقل واقعية وأكثر خيالية، لكن الخيالي من كثرة ما يتحول إلى كوابيس يعيشها البطل، وكأنه يصير واقعاً حياتياً، فنراه يشرع ويفتي في العنف الذي يمارسه على ذاته، أو من قبل على زوجته الشاعرة المثقفة التي قام بتدمير جسدها، تدميراً مادياً كما يزعم ليلة الدخلة. وإذا كان ناصر قدم لنا هذه اللمحه الروائية، وعكست جانباً من شخصية المثقف في تعامله مع المرأة، وذهبت في رواية (ريحانة) إلى جبال السروات، لأبحث عن نموذج امرأة تنتشلني كتابياً من غربة الحياة، والبحث عن فضاء كتابي يناسب رؤيتي، فقد قفز عبد العزيز الصقعبي مباشرة إلى عمق الفضاء، وجاءت رواية (رائحة الفحم) في تلك المرحلة، وبطلتها لتدور في فضاء وعالم أنثوي بحت، ويستطيع عبد العزيز في هذه الرواية خلق نموذج لامرأة، ترقص في داخل عرس وتحلل من عقدها المجتمعية، ويمكن لنا أن نتوسع كثيراً في قيمة التأويل المجتمعي، والرواية في زمانها وتوقيتها لم تقتحم العالم الروائي، ولكنها شقت نفقاً مظلماً لجيل من كتّاب القصة، ليقتحموا هذا العالم والفن الروائي من أوسع أبوابه، وهذا النموذج من العالم الروائي وبالذات ما يعني المرأة، يذكّرني برواية (عرس بغل) للروائي الجزائري الطاهر وطار، فقضية المرأة العربية والمسلمة تخضع لقوانين ومسلّمات، تجعلها أسيرة لجملة من القيود المجتمعية المعوقة لها، ويختلف واقعها بطبيعة الحال من قطرٍ عربي إلى آخر، فالسلطة المجتمعية سائدة وهمومها مشتركة.
قمة الألم أن تبحث عن كتابٍ، متأكد أنه موجود على أرفف مكتبتك، فلا تجده كما في حالتي الراهنة، فقد فقدت رواية (مقامات النساء) الإصدار الأخير لعبد العزيز الصقعبي، فربما تكون قد امتدت إليها يدٌ، أو أعرته بدون أن أدرك معنى فقدانه، ولم أستطع التخلص من فوضى دائما تنتظرني، وتسببت في تأخير موعد تقديم هذه الزاوية، وبالتالي فقد حرمت نفسي وقارئ هذه السطور، أن نجوس معاً في فضاء رواية (مقامات النساء) وقد قرأتها في زمن صدورها، ولا أظن أنها نشازٌ في تجربة عبد العزيز الصقعبي، فأحداث الرواية تدور في فضاء خارجي، كان أبطالها رجالاً ونساءً قد جمعتهم الصدفة في دولة عمان الشقيقة، وقد جاءوا إليها لأسباب سفر متنوعة، حيث يبدأ المؤلف في تعرية أحوال أبطال روايته، وإذا أكتب الآن من الذاكرة، وليس بيدي التوقف في مجمل محطات عبد العزيز الكتابية المتنوعة، بداية بـ (لا ليلك ليل ولا أنت أنا) و(عند ما يغني السامر) وغيرها من المجامع القصصية، ولن أستعرض الكتابة المسرحية ولا رواية طائف الأنس، ولكني سأتوقف في فضاء رواية (اليوم الأخير لبائع الحمام) الرواية الممتعة، لأسهم بهذا التناول السريع في ظلم المبدع عبد العزيز الصقعبي، وهذه الرواية في نظري تُعد واحدة من العلامات المميزة في مشهدنا الروائي، وللأسف لعدم وجود متابعات نقدية منصفة، ولعدم وجود مراكز دراسية تُعنى بهذا التراكم السردي، ولبعد عبد العزيز عن مراكز الضوء والشللية، لم يجد إبداع عبد العزيز وكثير من المجيدين ما يستحق إبداعهم من عناية، وقد فرحت والدكتور ياسر مرزوق أستاذ الأدب في تبوك، يخبرني أن هناك رسالة دكتوراه عن أعمال عبد العزيز الصقعبي، أذكر أننا تناقشنا حول دلالة (العنوان) ودلالة الحمام، وسيأخذنا فضاء الرواية، والمضمون، والبناء، والشخوص إلى كشف وقراءة عمق التحولات، بلا مقارنة بطبيعة الحال بغيرها من الروايات، فالرياض العاصمة السياسية للوطن، تحوي جميع الشرائح المتنوعة، والرياض فضاء الرواية وهي بطبيعتها، فن شامل يحوي أيضًا كل الشرائح المجتمعية، ويدخل في نسيجها التاريخي والسياسي واليومي والسيرة الذاتية، والسيرة الذاتية هي الضفيرة المتكأ عليها والواضحة في هذه الرواية، فقد اختار الكاتب أن يتصاعد بنا مع الحدث والبناء والخطاب الروائي، ويمنحنا المتعة ولذة الاكتشاف، ويتجسّد ذلك في سيرة الشخوص، ومعرفة التحولات بين الأجيال في عائلة (الضبادي)، ويوجد سمات مشترك، ولو حضرت سمات إنسانية وملامح، تنتمي للمكان والناس البسطاء والعيش على هامش الحياة، هذه الرياض المملوءة بأسرار الناس، تبقى مكانًا يحتضن السادة والعبيد، الفقراء والأغنياء، الناجحين والفاشلين، وتجسّد حالة إنسانية أو حالات فردية ومجتمعية..
الرواية فن موازٍ للواقع، وعبد العزيز الصقعبي يغوص في لحُمة هذا الواقع، ويكتب بواقعية شديدة ومدهشة، يكتب سيرة عائلة (تتراكم) أجبالاً وأجيالاً، لتشكّل حياة حشد من الجنسين، أبناء وبنات وأرحام وأحفادهم، يحمل كل منهم خيطًا في هذا النسيج، همًا ودورًا، وقضية بلا أيدولوجيا واضحة وبلا خطاب صارخ، وظلت زاوية الرؤية لدى الكاتب محايدة وبمسافة واحدة من الجميع، بمعني أنه ترك للكم الهائل من الشخصيات، حرية التّشكل في هذا النسيج الكبير واقعيًا وفنيًا، فتشكّلت الأحداث والمواقف تلقائية انسيابية في جسد الرواية، ومرر في تقنية كولاج عالية لمشاهد الحدث المتصاعد في الرواية، ويندر أن يعود لحالة الاسترجاع، ويكتفي بالرصد والتسجيل اليومي لسياق التحولات المدهشة.. ويضع بصمته حينما ينتزع في براعة وتشخيص (النموذج) واستبطان عالمه. ويأتي في رواية (اليوم الأخير لبائع الحمام) حضور السياسي هنا - شهادة على كتابة تاريخ الحدث الروائي، كاحتلال الكويت، ومجزرة صبرا وشاتيلا، وموت الملك خالد، وحركة عدم الانحياز، وتهاوي برجي التجارة العالمية، وقد حرص الراوي المحايد أن يكتب تاريخ عائلة: دخيل الله الضبادي، ابن الصحراء والصمت، قيل إنه ولد في الوقت الذي كان الملك عبد العزيز متجهًا شرقًا، ليتمكن بعد ذلك من دخول الأحساء بعد حملته على بعض القبائل ص8، فالضبادي تاجر السجاد والعباءات الرجالية (ولاحظ المهنة ودلالتها) تشخيصًا ونسيجًا فنيًا، يرفض أن يرث أحد أحفاده اسمه إلا بعد موته، وقد تشكّلت سلطة دخيل الله على جيش من البشر، وستتضح الحالات والشخوص التي ستحضر في هذه القراءة المبتسرة لبناء نسيج الرواية.
يقودنا الراوي إلى تلمس التنامي للحدث فنيًا، وما يحدث من تحولات ظاهرة في حالات شخوص الرواية، كحالات السفر والزوج والتعليم والتجارة والعصبية، ليذهب في تفاصيل مجتمعية موحية ومدهشة، فنشهد كيف يجيد بناء وتنامي الحدث، ويلتقط من عالم المهشمين تشخيص (عاهة) عضوية، متوارثة ومتراكمة من سيرة عائلة الضبادي وأوجاعهم، ليجعلها ضفيرة مدهشة في هذا النسيج: (من لا يعرف سعاد الابنة الثانية بعد منيرة لعمة دخيّل سبيكة، وابنة عليان، يشعر بكثير من الحزن عليها، فهي تمتلك الكثير من الجمال وإن أكتنز جسدها قليلاً، ولكن هناك بعض الثقل في حديثها وتفكيرها، عندما عرضها والدها على بعض الأطباء، قالوا: ليس بها أي عاهة عقلية، ولكن ربما ورثت بطْء التفكير وردة الفعل من إحدى قريباتها.. ص37، ونستنتج من هذا التراكم الزماني والبشري والعضوي والمكاني وفي الأسماء أيضًا، نتمكن من معرفة تراكم مرضي مجتمعي أيضًا، وتشخيص يدلل في إشارة بارعة إلى أمراض المجتمع المزمنة المتنوعة.
قراءة رواية (اليوم الأخير لبائع الحمام) ممتعة ومغرية، تطول فروعها وتمدد غصونها وتلمس جمالياتها، والسمات المشتركة الفنية في نصوص الصديق المبدع عبد العزيز الصقعبي، فالفرح والطبل في العالم النسائي، متلازمة حاضرة ترد في نص الكاتب عبد العزيز الصقعبي، وتشعر بالراوي العليم بتفاصيل عالمه، يجوس هذه العوالم بمعرفة ومهارة. يفعل ذلك أيضًا دون أن تشعر بسياق آخر منفصل عن النص، وقدم لنا في هذه الرواية لوحة لعالم نعرفه ونعيشه أسماء ومكانًا، وبائع الحمام بـ(الذات) صورة منتقاة من هذا الواقع بالتفصيل، ونموذج موجود في القرى والمدن، كحالة مجتمعية وهو ما يعنينا كمتلقين من الرواية، فدخيل بائع الحمام (يبُصّم) جده دخيل الله الذاهب في غيبوبة ورقة مزورة، ليرث بيت حي (الصالحية) الذي شاركت أبطال هذه الرواية، طفولة العيش في شوارعه، ويتفرد بامتلاك (البيت) بما له من دلالة الذي شهد تاريخ عائلة الضبادي: ليشعر بالطمأنينة، ولن يخاف من سوير النسيجان ولا كافة عائلتها مهما علت منزلتهم وتوسّع نفوذهم في المجتمع والدولة.. ص 85.