في رحلته المكوكية إلى السعودية حمل لنا الزميل محمد الغربي عمران رواية الزميل خالد، (وحشة النهار) التي تيسر لي قراءتها، وعزمت أن أوجه هذه التحية للمؤلف من خلال عرضها للقارئ الكريم.
تصوِّر الرواية في مقاطعها الأولى ارتباط الإنسان بالأرض (الصحراء) وهو المكان الروائي الذي اختاره الكاتب، إذ يصور الحميمية الناشئة بين إنسان الصحراء وطبيعتها القاسية، حتى أضحت سمة سلوكية ينتعلها ذلك الأب، وتمهيدا لرحلات الصيد فقد بدأ الكاتب ـ في صفحات الرواية الأولى ـ الحديث عن خلو معدته من الطعام واشتياقه له، والحالة التي تنتابه حين يكون جائعاً، فالصيد ومعرفة مواسمه وأوقاته بحسب نوع الطريدة هو مهوى قلبه وخبيئة فؤاده : (ربما نسي نفسه من حبه للصيد، إلا أنه يتراجع في اللحظة الأخيرة،ولا يصيد إلا في أوقات خشية إيذائها ونفورها من الأماكن التي يزورها، إذ إن الطيور لها أوقات، والأرانب لها أوقات مختلفة، ويحرص أبي على اصطياد (القطا ) في موسمها الخريفي كل عام) .
في المقطع السابق يلاحظ القارئ المدقق كيف نقل الكاتب حياة الصحراء بصورة جمالية منسابة إلى الذهن، كأنه يتحدث عن دوحة ماء يترقرق من بين أصابع الكاتب، إذ يضعك مع الفعل الروائي وجهاً لوجه في صورة استاتيكية مبهرة، يطرَّزها الكاتب بأبيات شعرية على لسان الراوي (الأب) ومن هذه الابيات قول الشاعر:
(نعدّ الليالي والليالي تعدنا
العمر ينقص والليالي بزايد
قولوا لبيت الفقر لا يأمن الغنا
وبيت الغنا لا يأمن الفقر عايد)
يعالج الكاتب في صفحات من الرواية مشكلة التطرف الديني المتمثل بالمذاهب من خلال سرد قصة حب أفضت إلى زواج بين رجل سني وامرأة بدوية شيعية في صحراء شمال الجزيرة العربية؛ وكيف كانت حياتهما ملؤها السعادة والمحبة، وكيف كانت شركة ( أرامكو ) مآل كل العاملين فيها على اختلاف جنسياتهم ومذاهبهم، وهي الشركة التي يعمل فيها بطل العمل، وينتقد البطل الممارسات الدينية الخاطئة لمتطرفي الشيعة من خلال عرض بعض أعمالهم التي تسيء للدين مثل جلد أنفسهم وتقديس الأشخاص، وغيرها من الممارسات الخاطئة التي يمارسونها، في ذات الوقت الذي ينتقد فيه أتباع المذهب الشيعي يشن هجوماً على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية من خلال حديثه عن ولع (الراوي العليم) بالفن التشكيلي والنحت (وهو فن عالمي لا يختلف عليه اثنان ممن وصلا إلى مرحلة من الوعي والثقافة)، وتحريم الهيئة لهذه الفنون، حتى لو كانت اللوحة تصور بطولة طفل من أطفال الحجارة، وهو يقف بوجه مجموعة من الصهاينة اليهود، جسد ذلك من خلال نقده للمعلم الذي جاء إلى مدينتهم ووقف يتفرج على لوحاته وهو يقول : « ماهذا ؟ ألا تعرف أن ما تقوم به حرام ! « هذا الاستخدام المُدُجِّن للدين استطاع الكاتب أن يميط عنه قناع الزهد ليظهر الوجه الآخر الذي يشوَّه الدين ويخدم الانظمة.
خالد اليوسف: يجمع جمعاً حميماً بين المتضادات في وصف شيق وممتع في صـ48؛ يصف لحظة لقاء حبيبين تحت زخات قطرات الماء البارد في هجير الصحراء، كعصفورين طال فراقهما وصدفة التقيا في لحظة تهيأت ظروفها للتماهي ببعضهما، وفي صـ51 يصف حالة الوجد الإلهي الذي ينتابه حين يقرأ القرآن وكيف تدمع عيناه خشية ورهبة.
هذه القدرة لدى الكاتب على معايشة وتقمص الحالة لحظة الكتابة إنما تدل على روح شفافة تتفاعل مع الحدث، وتذوب فيه، وتعني أيضاً أن هذه الروح غير مؤدلجة ومنمطة ،وكأنها جناحا طائرٍ يحلق في فضاء الكون الواسع.
جمع الكاتب ببراعة كل التفاصيل اليومية (لوحشة النهار)، فقد نقل للقارئ الكريم صورة عن أخبار الصحف اليومية، إذ سرد إحصائيات لعدد المصابين بمرض انفلونزا الخنازير في بلدة (السعودية) أغسطس 2009م، وفتوى مشايخ الحاكم التي تبرر تقصير الحكومة عن وقاية المواطن من الأمراض الفتاكة بأن من يموت بالانفلونزا المذكورة فهو شهيد، هذا الاستقطاب المعرفي للرواية توحي لك قارئاً، أن ثمة جهداً تدوينياً واعياً بما يريد الكاتب لتوظيفه في العمل الروائي منذ زمن مبكر.
يحث الكاتب الناشئة، والعامة على التثقف والقراءة والتعلم في مراحل العمر المختلفة، من خلال تصويره لمكانة من دأب على ذلك في مجتمعه والمجتمعات الأخرى، من خلال عرضه لشخصية ذلك الشاب الذي يأوي دوماً إلى الكتب والمكتبات والقراءة؛ ومكانته بين أهله وصحبه حين كان يتصدر المجلس إلى جوار أبيه، وهو لما يتجاوز للسنة الثانية من المرحلة الثانوية، حيث غدا مضرب أمثال أهل مدينته فيصف حاله حينئذٍ : «شعرت بالمسئولية التي قربتني إلى صدر المجلس مع أبي وأصدقائه وضيوفه، وشعرت أني رجل بثوب شاب صغير، وأن عمري أكبر منهم للأهمية التي أوليت إياها منهم جميعاً «، وليس في محيطه ومجتمعه، بل قد يتجاوز ذلك إلى العالمية، جسد ذلك من خلال حواره مع بعض الجنود الأمريكان في حرب الخليج الثانية الذين بدؤوا حوارهم بينهم بالسخرية من هذا الشاب ومن معه، إنهم يرضون بالقليل مما تضج به بلادهم من خيرات، وأنهم يبدو لا يفقهون من أمور الحياة شيئاً، لكن الشاب فاجأهم برده على من قال ذلك بلغته وهو يقول welcome to our country
ثم دار بينهما حوار طويل أفضى إلى إقناع الأمريكان بما طرحه جعل الآخر يطرح السؤال التالي:
where are you from ? وكان رد الشاب العربي بلغته أنه ينتمي إلى هذه الأرض التي فضَّل عدم تحديدها، ويقصد الوطن العربي والأرض العربية حين رد عليه بلغته: I am from this land am a citizen now in
فما تناوله الكاتب في حديثه مع الأمريكان إنما يريد أن يوصل - للآخر- رسالة مفادها أن الإنسان العربي ليس غبياً كما تصوره هو، وإنما العربي لديه من القيم ما تغنيه عن تلك المادة التي باتت - في الغرب - معبوداً من دون الله.
لعل الرواية لا تخلو من شيء من السيرة الذاتية، فهي تصوِّر تفاصيل الحياة اليومية لشخصية جسورة تزاور مضارب الصحراء، وتهفو إلى رائحتها ووجهها الواسع.
وتجاوزاً لعدد من مقاطع الرواية في العرض نصل بالقارئ الكريم إلى آخر مقاطعها (26) لنجده يعيدنا إلى حديث المقطع الأول عن حالة الفرد في لحظة اشتهائه، وإحساسه بالجوع وما يترتب على ذلك من تصرفات داخل بيته، وكأنه يعيد لذاكرة القارئ المقطع الأول من الرواية، فقادني ذلك إلى القصيدة المنسوبة لزيد بن معاوية الذي يقول في نهايتها: وآخر قولي مثل ما قلت أولاً:
أراك تروبا ولهنك المتيم
تطوف بأكناف السِّقاف المخيم
أصابك سهم أم بليت بنظرة
فما هذه إلا سجية مغرم
تحية لخالد أحمد اليوسف؛ وتحية لإبداعه الذي يجسد القيم والتفاؤل ويدعو إلى لملمة شتات البيت العربي والوحدة العربية من خلال خطابه الروائي.