في عُرفنا التقليدي الاجتماعي أن المرء إذا كبرت سنّه كان علينا أن نداريه ونحوطه بعناية، وهذا برٌّ واجب ثم تبدأ محطة التهميش إلا ما رحم الخالق حتى مرحلة الخرف (الزهايمر حديثاً)، وهذا انطباع توارثناه أباً عن جد ذكراً كان أو أنثى، وقد ذكر القرآن الكريم ذلك، وهذا لا شك فيه كتدرج لحياة الإنسان الطبيعية، ولكن في أرذل العمر دون تحديد سن وهذا ما نتعوذ منه دائماً، ولو قسنا ذلك فهو يربو عن المائة، ونحن ما إن يملك الأب والأم حفيداً يداعبه ويفرح به ثم يصبح يافعاً حتى نبدأ نشكك في ذاكرتهما وحكاياتهما ونظن بهما كل الظنون التي تؤدي إلى علامات الاحتظار السريع، فحتى زهير بن أبي سلمى عندما قال:
سئمتُ تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولاً لا أبا لك يسأمِ
قالت العلماء: لم يسأم الحياة وإنما سَئم تكاليف الحياة!! لأنه يعتبر ذلك فترة النضوج الفكري ويريد أن يركن إلى الراحة والدعة!.. وقد بلغ الثمانين وهو يسعى في شؤون حياته وبيته اليومية دون توقف!.. وهذه سنٌّ يحتاج المرء أن يستخلص منها عصارة الأيام والسنين وتجاربهما.
وكتاب المعمرين للسجستاني يزخر برجال جاوزوا المائة والخمسين والمائتين وعقولهم أرجح وذاكرتهم أقوى من سواهم كالمستوغر وغيره ومن تُقرع له العصا عامر بن الضرب جاوز المائة وهو يحكم بين الناس.. وقد قيّض الله لهم وأضرابهم من دوّن لنا أحداثاً في زمن لا يُعرف فيه الداة والدواة إلا نادراً.
جدتي - رحمها الله - توفيت منذ ست وعشرين سنة، وهي تعتبر من الرعيل الأول الذي حج على حُمر النعم ولم يصبها الخرف أبداً، وهي تقترب من المائة في زمن الهمبرغر والشيبس!.. بل ذاكرتها ظلت حية حاضرة تفرّق بين المرء وزوجه دون خلط بينهما بحواس سليمة لم تستطع بغيرها في تصريف أمورها غير النزر اليسير إذا بدأت تسرد في حكايتها رفعت بصرها الضعيف الذي أورثته لأبنائها ثم خفضته تارة أخرى!.. وقد استعانت بنظارة كلما تقدم بها العمر ثقل وزنها وزادت سماكتها وكأنها تندب أيام الطيبين الحقيقيين والأيام الخوالي بعد أن ترسل تنهيدة تتفاوت في عمقها حسب أهمية الحكاية!.. ويُقال هذا دائماً لمن لم تصبه نوائب الدهر وعلل الزمن كاعتلال الصحة في البدن والعقل، فهذه كرامة ذلك من الله ومكافأة لإخلاصه في الدنيا عن صلاته ودعائه وخُلقه!.. ومما يلفت النظر عدم إهمالها في سردها لكل صغيرة وكبيرة أو نسيانها، وإن فاتها شيء من الحكاية ترجع تصحح وتستدرك ثم تسترسل! فهي بحق تاريخ نحن نهمله ولا ندّون ما تحكيه تكاسلاً منّا وبلادة وهذا بيت القصيد، وأعتقد لستُ الوحيد في ذلك بل يشترك معي الكثير مع جداتهم وأجدادهم في هذا الخطأ الجسيم والذي نترك فيه شاهداً على حقبة بتفاصيلها قد تكون فيما بعد ورقة بيضاء من كتاب تفتقر إلى حروف وكلمات مزيّنة بحبر أزرق تخط تاريخ مدينة أوبلد في حقبة لحوادث قد لا يعلمها كثير من الكبار والصغار، ونكون جنينا جناية بحق أجيال قادمة تريد أن تعرف عن آبائها وأجدادها ما تفخر به، فامسك بجدك وجدتك ودعهما يسردان لك تاريخاً قُيّد في قلب وإن كثرت التناهيد!! فإنها من ألم الفراق واشتياقٍ لماضٍ لن يعود!.
زياد بن حمد السبيت - الأحساء