تأسس العلم في أصله على المدارك الحيَّة في أغوار النفس وثنايا الروح.
والعلم ما لم يكن كذلك فتأسس على الجهل، فإن من طبيعة ذلك اقتحام الميدان بدون سلاح ومن هنا ينشأ التميل النفسي في أعماق اللا وعي فيصدق المرء نفسه أنه عالم في علم ما نال منه ما لا يسعه أن يكون في عداد العلماء فضلاً عن (النقاد) أو اللغويين.. إلخ.
وهذا ما في ذلك شك يقود إلى طغيان الجرأة على العلم، وطغيان الجرأة على النقد والمشكلة هنا أن الجرأة تقود صاحبها إلى كثرة الكتابة وتكرار القول وشدة جرح وذم المخالف.
ومن طبيعة هذا تدهور العقلية شيئاً فشيئاً حتى تطغى أساليب الإنشاء وروح المهاترة.
لكن لنقرأ معاً هذا الأمر المتنوع ما بين عالم وناقد ولغوي لندرك الخلل، هذا إذا أدركناه فالخلل أصبح اليوم شيئاً لا مندوحة عنه.
نقرأ هذا إذاً: والفتوى الصحيحة ما هيب بسيطة، بل صعبة نبدأ كل يصدر الفتاوي).
انظر هذا الخلل: (ما هيب بسيطة) وأيضاً: (الفتاوى) بالياء.
وجاء كذلك: (ما عاد كل أحد يفتي الفتاوى الفتاوى صعبة).
لم أفهم مراده.
(وقد ذكر العلماء شروط الفتوى منها البلوغ).
لم أقف على من ذكر البلوغ، بل الفتوى قد يكون صاحبها صغير السن إذا اكتملت فيه أمور منها: العقل والتمييز، والأمانة مع ضابط الأدلة وما يجري عليها في هذا السبيل.
وورد: (والحديث الضعيف يعمل به إذا لم يوجد سواه..).
لم أقف على من قال بهذا إلا إن كان قصده في: الوعظ.. والنصيحة وحتى هذا ففي المسألة خلاف قوي.
والضعيف من الأحاديث لا يعمل به بعلة من العلل لأنه لا يتصور بحال من الحالات وجود مسألة إلا وعليها دليل مدون في المطولات وكتب الفروع مما صنفه كبار العلماء في الحديث خلال القرون.
وورد: (واتق شر من أحسنت إليه ليس بحديث لكن معناه صحيح).
أبداً فليس معناه صحيحاً فهذا مثل يجري على الألسنة وأصله: (اتق شر من أحسنت إليه إذا أسأت إليه).
ولا يجب أن يفهم أنه حديث لكن معناه بتمامه قد يقارب الصحة بمعنى أنك إذا أحسنت إلى أحد ما فلا تسيء إليه قط فهذا يجره أو قد يجره إلى: الذل فيذلك ولو بعد حين طويل.
أما النقد فهناك فهم سيئ جداً منذ بدأت كثرة الكتابة والكتب والبحوث، هناك فهم مذموم لا بد من بيانه.
ذلك حتى تستقيم أدوات العلم في حالاته كلها ما بين: سعة نظر، وعمق معرفة، وفطنة ووعي وإدراك.
ومن ضرورة هذا كله نزاهة الطرح وخلو العقل من الشبهة، وخلو القلب والقلب وحده من الشهوة.
هذا.. جزماً.. واحد من أسس لا بد منها في مجال كهذا المجال.
وهذا ما يدعوني وسواي إلى أن نقول: كيف؟
فاليوم هناك كتابات ومقالات وآراء تتسم بطرح جريء.. كما تتسم بطرح فيه ألفاظ لا يحسن أن تكون، وقد عبت على بعضهم هذا شخصياً بيني وبينه، وهذا الطرح أخذ كثير من القراء أنه هو: النقد وإلا فلا.
لكن خذ هذا المثل: (هذا مريض بحب السمعة لا يدرك ما يكتب جاهل مسكين) هذا دون ريب سب.
وخذ مثلاً: (في تقديري أنهم يجهلون العلم ويريدون أن يكونوا هم أهله بينما هم جهلة وأشد).
هذا سب مثل الأول.
وخذ مثلاً: (يفهمون حسب فهمهم وفهمهم أنهم يلوون أعناق الأدلة وهم صغار العقول كالعيس في البيداء) هذا ذم شنيع.
ففي هذه الأمثلة أين النقد؟
لا شيء.
لقد كان في مقدور هذا الكاتب شبه اليومي أن يحلّل ويقعّد المطروح أمامه فيأخذه شيئاً فشيئاً ليبين الخلل فيه بروح أخلاقية عالية مع دليله إن كان لديه ذلك، أو تعليله إن وجده، أما ما كتبه وهو صديق عزيز عليَّ فليس من النقد في شيء، ولولا أنه نشره ما كنت لأكتب هذا.
أما اللغة.. أما النحو ففتش كثيراً كثيراً في المقالات المنشورة بين حين وحين ولا تعجل الحكم على شيء مما تطالعه حتى تعيد القراءة ثلاث مرات، فلست أقول هناك فقر في هذين العلمين كلا.
بل هناك بتر، وهناك من البتر العجلة في الكتابة، وهناك المدح عند عرض كتاب أو رسالة أو مصنف دون بيان ما يوجبه الأمر من الخطأ أو الصواب فالمهدي حين يهدي كتاباً ما إنما يريد أن تبيّن له ما له وما عليه لكن هذا المثال جيد (أتحفني.. بكتابه الجديد، وهو كتاب جدير بأن يقرأ ويصنف أنه جديد في فحواه وقد جاء بآراء لم تكتب من قبل، وقد كان لآرائه هذه الفضل الكبير في إحياء اللغة والفضل الكبير في بيان ما اندرس منها).
أغلب الظن أن مثل هذا التناول يعمي عن الحقيقة.
وأغلب الظن أمره شائن لو دام على هذه الوتيرة فسوف تطغى المصلحة والمجاملة على أصل ما يجب أن يكون، لكن سؤالي هو:
من هو الملام؟
ومتى يكون العلم على وجهه؟
وأين النقد الموهوب؟
هذا هو السؤال؟
- الرياض