(المرجع)
(تعزيزُ الوحدة الوطنيّة واجبٌ، وتمنعُ الدولةُ كلَّ ما يُؤدّي للفرقة والفتنة والانقسام).
(تلتزمُ وسائلُ الإعلام والنشر وجميعُ وسائل التعبير بالكلمة الطيّبة، وبأنظمة الدولة، وتُسهم في تثقيف الأمة ودعم وحدتها، ويُحظُر ما يؤدّي إلى الفتنة، أو الانقسام، أو يمسّ بأمن الدولة وعلاقاتها العامة، أو يسيءُ إلى كرامة الإنسان وحقوقه، وتبيّن الأنظمةُ كيفيّة ذلك).
المادّتان: 12، 39 من النظام الأساسي للحكم 27-8-1412 هـ.
(أ)
الأصلُ الوطنيُّ في الانتماءِ أن ينتمي المواطن السعودي للدولة في شكلها ومضمونها الواقعي، وقدر ما تمكّنَ فيه هذا الانتماء وتأصّلَ في قولهِ وفعلهِ قدرَ ما تجاوزَ عن الانتماءات القبلية أو المذهبية أو العرقية الضيّقة وخطاباتها النزعويّة والانفصاليّة، فكلّ خطابٍ يتّكئُ على قبليّة أو مذهبيّة أو مناطقيّة فإنّه دون الانتماء الوطني العمومي، وهو في خطابه يجرح ميثاق المواطَنة السعوديّة ويعرّضُ السلمَ الأهليّ لمخاطرٍ لا يُحمدُ عُقباها، عَلِمَ بذلك أم جَهِل، والأصل أن يُشرّعَ ضدّ أيّ انتهاكٍ لهذه المواطَنة، كما بيّنت مواد نظام الحكم(12/39)، (وكان عدداً من أعضاء مجلس الشورى قد تقدّموا بمشروع نظام لتجريم الطائفيّة والقبليّة والمناطقيّة والعنصريّة لكنه لم يحال للتصويت)؛ فالانتماءُ لما هو واقع مادي في مفهوم المواطَنة السعودية أوسع من الانتماء لدوائر اجتماعيةٍ ضيقةٍ تسعُها الدولةُ، لكنّها لا يمكنها أنْ تسَعَ الدولةَ بمفردها؛ فما يتساوى الجزء بالكل.
لذلك فإنّ ثقافة المواطنة لا تتوقّف عند منهج تربية مدنية فقط، فهي ليست مسألة مرتبطة بالوعي وبالتأهيل فحسب، إنمّا تُحمى وتُفرض بموجب قانون يصونها ويردع من يعترضها، ولذلك فإنّ ثقافة المواطَنة يجب أن تتعدّى مفهوم المنهج والتربيّة وصولاً إلى ميثاق شرف وطني إعلامي وتعليمي أيضاً، يجعل من حُرمة المواطَنة السعودية أساساً في خطابه، بحيث لا يصدرُ عنه أيمّا قولٍ أو فعلٍ يجرحُ المواطَنةَ أو يعتدي على حقوقها، لا فيما يمارسه ولا فيما يكتبه وينشره على مستوى الإعلام، ولا فيما يلقّنه المعلّم/المعلّمة لأبنائنا/وبناتنا في قفزٍ متعمّدٍ عن المناهج -على الرغم ما عليها من ملاحظات وتحفّظات- ثم يذهب المعلمّ ويحشر في عقول الطلاب ما يمثّل رأيه الشخصي أو يلقّنهم ما تعوّده في دائرته الاجتماعيّة الضيقة ويحاسبهم عليه، وذلك نظراً لغياب مفهوم المواطَنة السعودية العمومية وحرمة انتهاك أيّ مكوّن داخلي وأثره على السلم الأهلي على مستوى التعليم؛ وعلى أن يكون ميثاق المواطنة العمومي مدعوماً بتشريعات تردع من ينتهك الميثاق وتجرّمه، تماشيا مع دستور البلاد في حقوق العباد وحفظ كرامتهم وحرياتهم ومعتقداتهم وتنوّع ثقافاتهم.
(ب)
طُرِحَ في العديد من المؤتمرات واللقاءات والدراسات عن السبب الرئيس الذي يعيق بلورة ثقافة سعودية عمومية حامية وجامعة لثقافاتها الداخلية المتعددة دون تعارض بين الثقافة العموميّة والثقافة الخصوصيّة، ودون غلبة أحدهما على الآخر، وأزعم أنّ أساس إخراج هذه الثقافة واقعيّاً يستوجب إحياء مفهوم المواطَنة السعوديّة على أسس لا ترتبط بالعرق أو بالمذهب، وأن يكون المفهوم حيّاً وفاعلاً على أرض الواقع ضمانة للعيش المشترك وعدم التفرقة، ففي ظل غياب ميثاق المواطَنة أو عدم بلورته والتركيز عليه فإنّما يصعب نشوء ثقافة عمومية واقعيّة تربط هذا التنوع المذهبي والعرقي دون تعارض.
(ج)
في كلّ أزمةٍ أو واقعةٍ عسكرية تكون السعودية طرفاً فيها فإنّ الإعلام يصيبُكَ بخيبةِ أملٍ بأدائه، وميل (حمائمه) للعنف وللعنصرية وللطائفية تحت تبريرات ظنيّة أو لغة إنشائية مليئة بالأخطاء والافتراضات والتعميمات؛
مَنْ أوعز أنّ الوطنيّة مرتبطة بالتطرّف والصريخ والعنصريّة والاستعلاء على الآخرين داخلياً وخارجيّاً؟ فلم يعد مقبولا، أو ليس صحيحاً أنّ (حداثة التجربة-قلّة الخبرة) هي السبب في ضعف التعاطي مع الأزمة وضآلة الوعي السياسي، فلا يمكن اعتبار الوعي السياسي لم يُمتحن جيّداً أو لم يصقل بالتجارب لدى الإعلام وكتّاب الصحف، فالدولة السعودية منذ نشأتها لم تكن في عزلة عن أحداث دول المنطقة والعالم، بل كانت في محطّات عديدة رقماً صعباً لقضايا دوليّة ولاعباً أساساً في قضايا المنطقة، بغض النظر عن تفكيك هذه الفاعلية وتحليلها السياسي والاقتصادي، ولذلك كان هناك العديد من الوقائع التي يفترض أنها أصقلت حدّة الوعي السياسي عند المواطن السعودي: (حرب اليمن الأولى وما سبقها من وقائع وأحداث، حرب 73، أحداث الحرم المكّي، حرب الخليج الأولى، حرب تحرير الكويت... وغيرها العديد من الوقائع)، بينما واقع الحال أنّ الوعي السياسي يتضاءل فيما ينشره من مكرورات إنشائيّة عاطفيّة، لا تنطلق من واقع أو تصوّر، ولا تتماشى حتّى مع الرؤية الس ياسيّة للقيادة، بل عادة ما تنطلق من أجندات اجتماعيّة ضيّقة، والوعي في أكثر ما ينشر على حالات ثلاث: وعي مصقل نادرٌ في نشره، يدرك الحال السياسي ويعتصم أو يعتزل عن طرحه لغياب المساحة المتعددة في تعدّد الآراء والمواقف حول موقف تكون الحكومة فيه طرفاً، ومرّة أخرى يعود السبب في عزلته إلى تعثّر الإعلام في نشر الآراء المتعدّدة والمختلفة وقبول المساحة المختلفة والتي يكفلها النظام، ووعي آخر يكتسح القنوات الإعلاميّة يقفز فوق الواقع في خطابٍ أجندويّ، ووعي تائه يظنّ فيما يفعله خيراً وغيرةً، بينما خطابه يتورّط في خطاب الفتنة حينما يخلط بين الوطنية والمزايدة على الدائرة الضيقة التي ينتمي إليها.
(د)
لم تعد العنصريّة -عند مجموعة عريضة من الكتّاب- تهمة شاذة، بل لعلّك إذا واجهتم بها لن ينكرونها، وقد أصبحت واقعاً يدافعون عنه تحت خلطٍ بين الوطنية والتطرّف والعنصرّية؛ والوطنية بريئة من هذا التصوّر والأسلوب، فالوطنية ليست بحاجة إلى العنصرية كي تثبت، والحال في العنصريّة والطائفيّة: أنها تنتشر اليوم بصورة لم يسبق لها مثيل.
أين هي العلة التي تخلط بين الوطنيّة والعنصريّة؟ وأنت لا تشكّ في وطنيّة هؤلاء المتورّطين بوعي تائه، وليس أولئك الذين يكتبون ويخفون أجندة من وراء هذا الخلط؛ أين هي العلّة التي تجعلنا غائبين عن مخاطر خطاب الفتنة على الوحدة الوطنيّة؟
دعونا نسمّي الأشياء بأسمائها: المواطَنةُ السعوديةُ دائرةٌ واسعةٌ، فيها: (دائرة السني على تعدّد مذاهب أهل السنة والجماعة، والشيعي على تعدّد مذاهبه، والصوفي، والاسماعيلي، وغيرهم من انتماءات دينية خاصة بمعتنقيها..، ويمكن لهذه الدوائر أن تكون دوائر اجتماعيّة أخرى كالدوائر القبليّة والحضريّة والأعراق الأخرى) لكن المواطنة السعوديّة تجمع الجميع في وحدة وطنيّة واحدة لا تفرّق بينهم لأسباب قبليّة وعرقيّة ولا لأسبابٍ مرجعيّة خاصّة بتأويل نصوص الدين وتفسيراته؛ فكيف يسمح أن تجد الإعلام ينشر ما يعتدي على المذهب الشيعي وأتباعه، ويحمّل المذهب ومعتنقيه بطريقة تعسفية وزر سياسات إيران الخارجيّة وعلاقاتها بدول الجوار؟! أليس في هذا الخطاب -تحديداً- ما يفتح باباً لمحاكم تفتيش تفضي إلى تحديد المواطنة على مقاسات متورّطة بشُبهة عنصريّة أو طائفيّة؟! وهو ما تحظره وتمنعه مواد النظام الأساسي للحكم، كما هو مبيّن في المرجع أعلاه.
(هـ)
التزاماً بسياسة القيادة العليّا للبلاد الحريصة على الوحدة الوطنيّة، والتزاماً بالمادة 39 من نظام الحكم، فإنّنا ندعو وزارة الثقافة والإعلام إلى دعوة رؤوساء تحرير الصحف المحليّة والقنوات التلفزيونيّة وكلّ منبر يخضع لها، لوضع خطوط حمراء والالتزام بها كمبادرة إعلاميّة هي عين ميثاق المواطَنة، (أ) أن لا تُجازُ مادةً مكتوبةً أو مُصوّرة تُسيءُ للشيعة أو لمذاهب السنّة، أو للمتصوّفة أو للإسماعيليّة أو غيرهم من مكوّنات المواطنة السعودية، (ب) وأن تعالج قضايا الخطاب الديني-السياسي في حدود مرتكبيها، وليس في نطاقات المذاهب الكريمة وأتباعها، الذين يُنكرون الخطاب الديني-السياسي أيّاً كانت مذاهبه وادّعاءاته، فهو يستغل الدين/المذهب لأجندة سلطويّة سياسيّة، (ج) وأن لا يوصّف أيّ صراعٍ خارجيّ تكون الدولة طرفاً فيه، كما هو الحال في صراعنا مع سياسات إيران التوسّعيّة تحت توصيفات سنيّة-شيعيّة، فإذا شاءت إيران وحلفاوها اعتماد هذا التوصيف للصراع فهذا شأنهم حينما يحوّلون صراعاً على النفوذ والمصالح إلى صراع طائفي لأجل تأجيج المنطقة بما يخدم أجندتهم، فهو الفخّ الذي يرصده وينصبه لنا أعداء الدولة، في تحريفهم لأصل أطماعهم التوسّعية والسياسيّة وتحويلها إلى أساطير مذهبيّة ليست من الواقع بشيء إنّما تفخيخاً للواقع ومحاولة لاصطياد تركيبة المواطنة السعوديّة، التي يُخشى في غفلة من الإعلام وضعف من الوعي السياسي أن تتحوّل إلى تهديدات قد تؤثّر في وحدتها ومفهومها الوطني، ما لم تصدر تشريعات تجرّم ما فيه انتهاك لميثاق المواطنة السعودية؛ وحتّى حينه فإنّ الوعي الوطني عند المحرّرين والكتّاب مسؤولٌ بالالتزام بميثاق المواطنة السعوديّة حفاظاً على الوحدة الوطنيّة، وهو أقلّ ما يقدّمه الناشر والمحرّر والكاتب خدمة لوحدة بلاده في هذه الظروف التي تمرّ بها المنطقة العربيّة.
- جدة