سعدت بصحبة بعض زملاء العمل كثيراً، وكانت هناك بعض الاختلافات الموضوعية في فترات العمل المختلفة، لكنها لم تكن لتؤدي إلى تباعد في القلوب عند ذوي المعدن الأصيل. من كان يرى التباين بيني وبين بعض الزملاء الذين يختلفون معي في المنهج وطريقة العمل لا يظن أن هناك ألفة ومودة بيننا، لكن مواقف بعضهم، خاصة الصديق العزيز وزميل الكتابة في هذه المجلة الثقافية أيضاً الأستاذ الدكتور إبراهيم الشمسان، ليس إلا ممثلاً لموقف هذه الفئة.
تلقيت منه مؤخراً اتصالاً يسأل فيه عن أحوالي، ويتعهد ما انقطع خلال فترة غيابي عن المداولات، التي كنا نحتد فيها أحياناً، لكن ذلك لم يكن إلا لمصلحة العمل، واتخاذ آراء موضوعية، يغيب عنها الجانب الشخصي واتباع الهوى، كما يحصل في مواقف بعض المهادنين. أكبرت في أبي أوس هذا الموقف، وكنت من قبل متيقناً بأنه من فئة الرجال الذين لا تميل بهم الرياح إلى حيث تريد، ولا ينكصون عما يرونه في مواقفهم وتقديرهم لأصحاب الجهود المخلصة.
وعندما تحدثت مع أحد الزملاء بعد ذلك بأيام قال: نعم، قد يكون هنا أو هناك بريق يسعى إليه أو ينجرف معه بعض أصحاب التزلف والمواقف الهشة، الذين لا يدركون أن الأساس لا يكون إلا للأعمال الأصيلة، وأن البريق الذي يدهشهم ويجذبهم إليه لا يلبث أن يزول؛ فتذهب الغمة عن عيونهم؛ ليكتشفوا أنهم لم يكونوا على شيء. وذكّرني بما كان من زواج هند بنت عتبة من الحجاج، ثم طلاقها منه، وزواجها بعبد الملك بن مروان. وهي التي كانت قد اشترطت على الخليفة الأموي أن يسوق راحلتها إلى الشام الحجاج نفسه، وعندما نفّذ الحجاج شرطها مكرهاً بأمر من الخليفة أسقطت ديناراً، وقالت: يا غلام ائتني بالدرهم، فقال لها: إنه دينار وليس درهماً. فقالت: الحمد لله الذي أبدلني من الدرهم ديناراً. بالطبع، لا تنتهي القصة عند هذا الحد، فما حاوله الحجاج لاحقاً مع الخليفة عبد الملك بن مروان للانتقام منها مذكور في كتب التاريخ؛ إذ لم يحضر الوليمة، وعندما سأله الخليفة عن سبب عدم حضوره قال: نحن قوم لا نأكل من بقايا غيرنا. ملمحاً إلى كونه قد تزوج زوجته بعد طلاقها منه. لكن صاحبي يريد أخذ المغزى من الجزء الأول من القصة.
قلت له: يا صاحبي، لا تحتاج إلى أن تؤكد بهذا الكلام اقتناعاً جلياً عند من يعرف أن للباطل جولة، وللحق صولات. وما يقوم به أصحاب الأعمال الجادة غير ملتفتين إلى أصحاب البريق والمتسكعين في كل سكة نابعٌ من معرفتهم الأكيدة بأن ما يبقى للناس ليست تلك الطعطعات الفارغة، ولا إرضاء أصحاب الهوى الذين سيكون تقديرهم عالياً للخاملين وذوي الأصوات الهادئة الرتيبة غير المميزة. تصور لو كان جاليلي أو كوبرنيكوس وغيرهما من ذوي الأصوات الأصيلة استسلموا للضغط الشديد الذي عانوا منه من كثير من ذوي الاتجاه المخالف للعلم، ما الذي كان سيكون؟ فهم أشخاص في غاية التعاسة، أولئك الذين يصنعون لأنفسهم مواقف عنترية، بينما هم يعيشون على منتجات عقول غيرهم، لكنهم يؤيدون مواقف المناهضين للإنتاج العلمي، وحرية الفكر البشري. لكنني يا صاحبي لا أعوّل على هذه الأصوات المشاكسة، وما أطمع في انفتاحه على الجديد فيما يُقدم لإبعاد الصدأ عن الهياكل المجتمعية هو الأجيال القادمة، التي ستكون مسلحة بالعلم، وغير خاضعة لسلطان الغوغائية. حينذاك سيكون الإنصاف لمن يقوم بالأعمال الموضوعية الجليلة، كما سيكون التبخر نصيب أفعال من يظن بأن الصوت يصمد طويلاً، أو أنه يبني فكراً يُعوّل عليه.
- الرياض