امتداداً للحديث عن مؤتمراتنا الجامعية وما تواجهه من إخفاقات كنتُ قد أشرتُ إلى شيءٍ منها في المقال السابق، أؤكد هنا على أنَّ أهمَّ مشكلةٍ تواجه الجامعات حين تعقد أمثال هذه المناسبات العلمية ما يتصل بالتوصيات التي يصدرها المسؤولون في ختامه، لتكون تتويجاً للجهود العلمية التي بذلت، ووصايا ينبغي أن ينظر إليها بعين الاهتمام، وأن يعمل بها في مستقبل الأيام، ولهذا سأخصها بالحديث في هذا الجزء من الموضوع.
إنه لمن المؤسف حقاً عدم إدراك أصحابنا القائمين على المؤتمرات والندوات بقيمة التوصيات، وظنهم أنها مجرَّد (روتين) و(بروتوكولات) يجب أن تُذكر في نهاية كلِّ مناسبةٍ علمية، وأنها من تمامها فقط؛ ولهذا فإن من يُتاح له حضور كثيرٍ من هذه المؤتمرات سيلحظ بوضوح أنَّ معظم توصياتها (صورية) لا جدوى منها، لا تقدِّم ولا تؤخِّر في موضوع المؤتمر، ولا تضيف أيَّ شيءٍ جديد على القضية التي يعالجها ويبحث عن تطويرها.
ولعلَّ من الأسباب التي جعلتْ كثيراً من المسؤولين يتعامل مع التوصيات بهذه الصورة: الخوف من التغيير، وعدم تقبُّل الأفكار الجديدة، حيث يتسيَّد ذلك الفكر الذي يرى أنَّ القديم أفضل من الحديث، وأنَّ الجيل الماضي أفضل من الجيل الحالي، فيُنظر إلى هذه التوصيات على أنها مساراتٌ في العمل ينبغي توخي الحذر منها، حيث ستؤثر سلباً في واقع القضية، وأنه من الأفضل البقاء على ما كان عليه الأمر من قبل، وبناءً عليه فالأولى أن تظلَّ هذه التوصيات حبيسة الأدراج بعد أن يُضحك على الحضور بإعلانها و(البهرجة) بها، حتى تكتمل (المسرحية الهزلية) للمؤتمر، ويصفِّق (أبطالها) منتشين بفرحة الختام، ومتشوقين بلهفة إلى ما سوف تذكره وسائل الإعلام المختلفة عن هذا المؤتمر (العظيم)، الذي خرج أصحابه منه بـ(فتوحاتٍ) علمية متميزة!
ومن الأسباب التي تجعل هذه التوصيات عديمة الفائدة: الضعف الكبير الذي ابتليتْ به كثيرٌ من الهمم، حيث ركنتْ إلى ما هو موجود، واعتمدتْ على ما أسَّسه السابقون، وما دام الأمر كذلك فلماذا التعب والعناء!! ولا شكَّ أنَّ هذا ناتجٌ عن قلة وجود العقليات الواعية القادرة على تفعيل ما تنتج عنه هذه المناسبات من سبلٍ تسهم في التطوير والارتقاء.
ومن الأسباب التي يُظهرها بعض المسؤولين ويخدع بها المجتمع: قلة الموارد، والتحجُّج بـ(ضعف الميزانية) و(الشؤون المالية)، حيث يرى أنَّ هذه عقبات كبرى تواجه المؤسسة حين تتجه إلى تفعيل توصيات هذا المؤتمر، رغم أنَّ إقامته كلَّفت مبالغ طائلة، وهي أعذارٌ واهيةٌ ضعيفةٌ تؤكد لك ما ذكرته سابقاً من أنَّ كثيراً من هذه المؤتمرات إنما يُقام لمجرَّد (الاستعراض)، وبحثاً عن رضا المسؤول، ورغبةً في (تجميل) وجه المؤسسة التي تقيم المؤتمر، والظهور قدر الإمكان في وسائل الإعلام للحديث عن هذا (المنجز الاستثنائي).
ومن أهمِّ المشكلات التي كنتُ شاهداً عليها في كثيرٍ من توصيات هذه المؤتمرات: (مثالية) الموضوعات المطروحة، وارتفاع سقفها عما هو عليه الحال في الواقع، وهذا راجعٌ إلى ما كرَّرته في أكثر من مناسبة من أنَّ أصحاب المؤتمرات ليس لديهم الوعي التامُّ بأهمية هذه التوصيات، وتوهمهم أنَّ كون التوصيات على هذه الصورة من المثالية والكمال يساعد على نجاح المؤتمر، ويسهم في لفت الأنظار إليه، ويدلُّ على أنه حقَّق أهدافه وغاياته، حتى لو كانت هذه التوصيات مجرَّد (ضحكٍ على الذقون)، ولا يمكن تنفيذها حتى في مدينة (أفلاطون)!
وتظلُّ كثيرٌ من الإشكاليات حاضرةً حتى لو كانت بعض التوصيات واقعيةً وقابلةً للتنفيذ، وذلك حين تكون الجهات التي ينبغي أن تستثمر هذه النتائج بعيدةً كل البعد عن الاطلاع على التوصيات وتطبيقها والإفادة منها، بسبب وجود حلقةٍ مفقودةٍ في التواصل والشراكة بين الجامعة والمؤسسات المجتمعية ذات الصلة والاهتمام الواحد؛ ولهذا ينبغي أن يكون الترابط بين (وزارة التعليم) و(وزارة العمل) قوياً وفاعلاً، حيث إنَّ مُخرجات الأولى تصقلها الثانية وتُقدِّمها للمجتمع.
ومن الأسباب التي أراها تسهم في عدم الإفادة من هذه التوصيات عدم خروجها في صورةٍ ناضجةٍ ومكتملة؛ لأسبابٍ تنظيميةٍ تتعلق بالوقت المخصَّص لصياغتها، وهو ما يكون عادةً في نهاية المناسبة العلمية، مما يؤدِّي لعدم منحها حقَّها في الطرح، إلى جانب أنَّه قد تتم إنابة رئيس الجلسة لكتابة التوصيات وتمريرها بعد انتهاء المؤتمر، إضافةً إلى وجود التنافر بين الجانب (التنظيري) و(التطبيقي) ومدى إمكانية تحقيقها في الواقع، كما يؤدي إلى ذلك أيضاً توهُّم بعض المتحدثين في هذه المؤتمرات بأنَّ مهمته تنتهي بمجرد طرح موضوعه واقتراح بعض التوصيات.
ومن الأسباب التي أراها تقف عائقاً دون تطبيق التوصيات التي تصدر عن مؤتمراتنا وندواتنا العلمية التي (تتفاخر) بها جامعاتنا في كل وقت وحين: عدم وجود (إدارةٍ متخصصة) في كلِّ مؤسسةٍ تعليميةٍ، تهتم بوضع خططٍ مستقلةٍ لتنفيذ هذه التوصيات، بحيث يكون من أهمِّ أعمال هذه الإدارة تحديد الفترات الزمنية التي سيتم فيها تنفيذ كلِّ قرارٍ أُدرج ضمن توصية، إلى جانب تحديد المسؤول عن تنفيذه والميزانية المطلوبة، ومن ثمَّ تتمّ المتابعة الجادَّة لذلك، ومحاسبة المقصرين.
***
إنَّ المتخصصين في استراتيجيات التعليم والمعرفة يؤكدون على أنَّ توصيات المؤتمرات والندوات الجامعية المتخصصة (ثروةٌ) علمية ومعلوماتية رفيعة لا ينبغي التفريط بها أو تجاهلها أو إهمالها في الأدراج، وأنَّ عدم تنفيذ هذه التوصيات ناتجٌ عن عدم وضع لجانٍ وآليات واضحةٍ لتفعيلها ومتابعتها، إلى جانب ضعف أداء الكوادر البشرية وقلة فاعليتها، إضافة إلى غياب أنظمة (المساءلة) و(الشفافية) و(قياس أداء) المؤسسة.
ولا أشكُّ لحظةً بأنَّ كثيراً من هذه التوصيات لو طُبِّقت في حينها لوفَّرتْ على الوطن كثيراً من الخسائر، وأسهمتْ في العملية التنموية بشكلٍ فاعل؛ ولهذا ينبغي إيقاف (هدر) هذه الثروات العلمية والمعلوماتية، وذلك من خلال إيجاد آلية عملٍ تسهم في استثمار هذه الجهود ومخرجات المؤتمرات وتجسيدها في العملية التطويرية، وإشراك الجهات ذات العلاقة في الإطلاع على هذه التوصيات، وألاَّ يترك الأمر كعملية اختيارية للمسؤول في تبني التوصيات العلمية أو إهمالها.
- الرياض
omar1401@gmail.com