(2) منجز الدكتور عسيلان التطبيقى في تحقيق النصوص التراثية في ضوء أصوله التنظيرية
سبق في مدخل هذه المقالة بيان منجز الدكتور عبدالله بن عبدالرحيم عسيلان من تحقيقات النصوص التراثية التي توزعت على انتماءين معرفيين موسعين هما:
أولاً- الأدب.
ثانياً- التاريخ.
وفي هذا المطلب تحليل لمنهجيته في تحقيق نصوص هذين المجالين، في ضوء أصوله النظرية التي قررها في منجزه التنظيري، وسنحاول احترام منهجه الذي صممه وفق المراحل التي يتعرض لها النص على يدي محققه.
(2 -1) الوعي بتطبيق معيار جودة اختيار النص مشغلة التحقيق.
من مراجعة النصوص التي اختارها وحققها الدكتور عسيلان، يظهر وعي جيد بتحكيم هذا المعيار. لقد توجه المحقق الكريم إلى عدد من النصوص، وطبق عليها معايير جودة الاختيار كما يلي:
أولاً- قيمة النص في المجال أو الحقل المعرفي الذي ينضوي تحته، وقد كشف عن هذا المبدأ اختياره لحماسة أبي تمام ت 231هـ، وهو نص مهم في حقل الاختيارات أو المختارات الشعرية، وله تأثير في نظرية النقد الأدبي العربية، ومثل ذلك ظاهر في اختيار أبيات الحماسة، لأبي عبد الله النمري ت 385هـ الذي يعد تحقيقه استجابة لأصل علمي تمم به عمله في حماسة أبي تمام.
ثانياً- خدمة حقل الاختصاص:
كشفت قائمة النصوص التراثية التي حققها الدكتور عسيلان عن إرادة خدمة حقل الاختصاص الذي تكون في دوحته، وهو حقل الدراسات الأدبية والبلاغية والنقدية في الأساس، وهو المبدأ الذي يحمل مستعملي تحقيقاته على تحصيل الاطمئنان المبدئي، بسبب من كونها صادرة عن مختص مؤهل، صبر نفسه على التكوين العلمي في ميدان بعينه ابتداء.
وهذا المبدأ هو الذي يفسر لنا السر وراء ارتفاع عدد تحقيقاته في حقل الأدب، فقد مثلت تحقيقاته من نصوص الأدب التراثية نسبة تزيد عن خمسة وخمسين بالمئة.
ثالثاً- شهرة المؤلفين والمصنفين أصحاب النصوص المختارة:
ظهر من عدد من النصوص التي حققها الدكتور عسيلان وعيه بمبدأ حاكم في تعيين قيمة النص عند اختياره للتحقيق مكانة مؤلفه أو مصنفه في حقله المعرفي، وقد جاء كثير من النصوص التراثية التي حققها المحقق الكريم وفية لهذا المعيار، فاختار نصوص:
أ- لأبي تمام، حبيب بن أويس الطائي، سنة 231هـ، وهو إمام في صنعة الشعر، ودرايته ونقده، فحقق حماسته.
ب- وأبي عبدالله النمري، سنة 385هـ، وهو ناقد ولغوي له مكانة مرموقة، فحقق كتابه معاني أبيات الحماسة.
ج- والخطيب البغدادي، الحافظ المؤرخ: أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت سنة 463هـ، فحقق كتابه: التطفيل.
د- وابن كثير الدمشقي، أبي الفداء عماد الدين إسماعيل بن عمر، 774هـ، وهو مؤرخ محدث ومفسر كبير، فحقق له كتاب: الاجتهاد في طلب الجهاد.
إن هذه المعايير الثلاثة الفرعية كاشفة عن وعي إيجابي بهذه المرحلة المهمة على تحقيق النصوص التراثية.
وقد فرط عن الدكتور عسيلان عند تطبيق هذا المبدأ الكلي- نوع سلبيات، فقد اختار نصوصًا تراثية سبق أن صدرت محققة، ولا يظهر مسوغ لإعادة نشرها عند عرضها على المسوغات التي ذكرها التنظير.
ومن أمثلة ذلك:
1- إعادة نشر كتاب: البديع في وصف الربيع، لأبي الوليد، إسماعيل بن محمد بن عامر بن حبيب الحميري الإشبيلي، ت440هـ، الذي سبق إلى تحقيقه المستشرق: هنري بيريس معتمدًا النسخة الوحيدة التي اعتمدها بيريس، وهي نسخة مكتبة الإسكوريال.
والمسوغات التي قدَّمها بين يدي تحقيقه مقبولة في هذا المثال، فقد قرر أن إرادته التي توجهت إلى إعادة تحقيق هذا الكتاب هي:
أ- ندرة التعليقات.
ب- عدم تخريج النصوص.
ج- امتلاء نشرة بيريس بأخطاء التصحيفات والتحريفات، وقد صنع جدولا امتد على صفحتين (ى؛ ك) للتدليل على دعواه.
د- الت صرف في النص بالزيادة والحذف من دون تنبيه.
2- إعادة نشر كتاب: التطفيل وحكايات الطفيليين وأخبارهم ونوادر كلامهم وأشعارهم، للخطيب البغدادي ت 463هـ، فقد سبق لحسام الدين القدسي أن نشره سنة 1364هـ عن نسختين هما:
أ- نسخة الشيخ عبدالقادر بدران.
ب- ونسخة المكتبة التيمورية.
وجاءت نشرة الدكتور عسيلان، فأخلت بالاعتماد على نسخة الشيخ عبدالقادر بدران وزادت نسخ تشستربتى، واستأنس بطبعة القدسي!.
وحمله على إعادة التحقيق:
أ- وجود أخطاء في طبعة القدسي!.
ب- تصرف القدسي بالحذف من الكتاب، وهو أمر مرفوض في تقاليد تحقيق النصوص التراثية!.
وبهذا فإن إعادة تحقيق كتاب التطفيل استوفت المسوغات:
3- إعادة تحقيق كتاب: الاجتهاد في طلب الجهاد، لابن كثير الدمشقي سنة 774هـ، وقد كان صدر من قبل سنة 1347هـ بالقاهرة.
ولا أرى مسوغًا لإعادة تحقيقه هذا الكتاب؛ ذلك أنه اعتمد على نسخة وحيدة هي نفسها التي اعتمدها ناشرو الكتاب في المرة الأولى؛ فضلاً عن أنه نص قصير نسبياً كان يكفي في تقويمه صنع مقالة نقدية تجرد أخطاءه وتصحيفاته وتحريفاته!.
وقد فرط من الدكتور عسيلان عدد من الأخطاء، لم يستدركها في مستدرك التصويبات الذي ألحقه بآخر نشرته (ص136)! من مثل:
المؤشر المكاني الخطأ صوابه ص72 - س10 أشعث، بالكسر والتنوين! أشعث، بفتحة بغير تنوين، وهو المثبت في رواية اليوينيني التي اعتمدها في التخريج 4 -42 ص74 - س1 من سماع الآذان؛ بمد على الألف! الأذان؛ بهمزة مفتوحة إذ ليست الكلمة جمع أذن!
إن هذه الأمثلة التي ذكرتها هنا لا تمثل -إلا في القليل- مخالفة لمبدأ نظر له وقدره متابعا في ذلك المنظرين لعلم تحقيق النصوص، ولا سيما في التقاليد العربية المعاصرة، وهو عدم التوجه إلى إعادة نشر ما سبق نشره من النصوص التراثية المحققة إلا مع توافر مسوغات حقيقية.
(2 -2) جمع النسخ.
هذه المرحلة بدت العناية بها في تحقيقات الدكتور عسيلان ظاهرة، فقد كشفت تحقيقاته عن رعايته لمبدأ جمع نسخ المخطوطات للنصوص التي حققها وأصدرها، وهو التزام دال على مجموعة من السمات المهمة الواجب توافرها في المحقق من مثل:
أ- الصبر والأناة.
ب- التضحية في سبيل تحصيل النسخ.
ج- الأمانة العلمية.
(2 -3) النسخ والمقابلة.
اعتنى الدكتور عسيلان بعمليتي النسخ والمقابلة عناية ظاهرة في ما حققه وأخرجه من النصوص التراثية، بشكل عام، ولا سيما في النصوص التي توافر على عدد من نسخ مخطوطاتها، ولم يكن مفرطا في ما يثبته من فروق النسخ.
وهو في ذلك وفي للتقاليد العربية المعاصرة التي استقرت بعد مرحلة عبدالسلام هارون -رحمه الله-، اكتفاء ببيان الخصائص العامة للكتابة في المخطوطات المعتمدة.
(2 -4) تصحيح النص وتقويمه.
اجتهد الدكتور عسيلان في تصحيح النصوص التراثية التي نشرها محققة، مستهدفاً:
أولاً- أداء هذه النصوص صحيحة متقنة.
ثانياً- تقويم ما فرط من ناشريها السابقين عند تعرضه لإعادة تحقيقها.
ثالثاً- الإيمان بأن أهم أعمال التحقيق ماثل في أداء النص مشغلة التحقيق صحيحاً متقناً، خالياً من الفساد والأخطاء والتصحيفات والتحريفات.
ومع ذلك فقد فرط منه ما يلزم معه تصحيحه في الطبعات التالية لهذه التحقيقات، ومن أمثلة ذلك:
) وفي البديع: ص13 -8 قرر أن في البيت خللاً يقع بين: رواعدها وبطبول في قول الشاعر: قامت رواعدها (...) بطبول.
وهو من الكامل وينقص بمقدار وتد مجمع من التفعيلة الثانية، ولعل كلمة مثل: رَدًى، تقوم بجبر الوزن والمعنى!
) البديع: ص17 -10 كتب: مزهرة (بالراء) مفعولة من الزهو، وصوابها: مزهوة (بالواو)، وكان من المهم ضبطها: بفتح الميم وسكون الزاء المعجمة وضم الهاء وفتح الواو المشدّدة!.
) البديع: ص:35 -2 يقول: لم تنفرد بنوّار (بتشديد الواو)، والصواب: بفتحها من غير تشديد! ويبدو أن التشديد كان من خصائص عامة الأندلس بدليل استعمال جمعها على: نواوير أحيانًا في هذا الكتاب نفسه!
) وفي التطفيل أو ص 136 -6: «ولا نجدت المنازل إلا لتدخل»، ولا معنى للفعل: نجدت!
ولعل الصواب: «اتخذت»، وهو نص ما في: العقد الفريد، لابن عبد ربه (6 -205، س6).
وقد سبق أن ذكرت بعض الأمثلة على ما فرط من المحقق في تصحيح نص كتاب ابن كثير الدمشقي، الاجتهاد في طلب الجهاد.
وهذه أمثلة قليلة لا تنال من أصل الحكم بجودة تحقيقات الدكتور عسيلان في الإجمال.
(2 -5) التعليق وتخريج النصوص.
يبدو من تنظير الدكتور عسيلان عناية طيبة بأصل التعليق وتخريج النصوص في الأعمال التي يتصدى المحققون لتحقيقها.
وقد بدا من منهجيته في التعليق وتخريج النصوص الخصائص التالية:
أولاً- الوعي بطبيعة التنوع المعرفي للنصوص المتضمنة في النصوص التراثية التي حققها، وهو الوعي الذي انعكس على ما يلي:
أ- تنوع المصادر تبعاً لتنوع أنواع النصوص المضمنة.
ب- تنوع مناهج التخريج تبعا لأنواع النصوص.
ثانياً- الإيمان بعدم الإكثار من مصادر التخريج، اكتفاء بما يراه فريق من المحققين كفاية التخريج من المصادر الأصيلة.
وهو منهج انتصر له الأستاذ محمود محمد شاكر، وتنبه بأخرة الدكتور محمود محمد الطناحي، رحمه الله تعالى. وقد خالف هذه المنهجية في تراجم الأعلام لما ورد وترجم له في الكتب التي حققها.
- أ. د. خالد فهمي