وأخيراً، إن هذه الفلسفة الإبداعية الخلاقة قد أملت على د. راشد المبارك - رحمه الله - إعجابه بالمتخصصين المعرفيين الذين يجولون بعلمهم في حدائق المعرفة والثقافة كما جال وصال هو فيها حراً طليقاً منفتح الذهن، لا يحده تخصص ولا تعيقه عن التأمل والنظر فكرة مسبقة أيديولوجية دوجماتية غير براجماتية موغلة في الطيف الداكن أو الرمادي الواقع على حد سواء خارج حدود نظرية المعرفة المعاصرة الديناميكية الصانعة للعلم والثقافة والمعرفة.
3- البعد الثالث: فلسفة منهجية منظورية التوجُّه تمثلت في أبحاثه ومؤلفاته في آلية الكم وفي حل استشكالات الاندماج المغزلي، وتأثير ذلك على مستويات الطاقة في الذرة والجزيء. ومن أول جهوده العلمية في هذا الجانب حساب الفرق بين قيمة التفاعل في حالة الذرة المفردة وقيمته عندما تتحد مع ذرات أخرى كما هو الحال في العناصر الانتقالية.
إن فكر د. راشد المبارك - رحمه الله - وفلسفته المنهجية الإبداعية الخلاقة قد أفرزت فسيفساء نادراً من المؤلفات التي من أولها مؤلفه في «كيمياء الكم» الذي شاركه في تأليفه أ.د. معتصم خليل إبراهيم أستاذ الكيمياء بجامعة الملك سعود. وقد عكس هذا الكتاب فكر د. راشد المبارك وفلسفته الفيزكيميورياضية، وبخاصة في مجالي نظرية المعرفة التفاضلية التكاملية والاندفاع الزاوي نظرياً وتطبيقياً. ويعتبر كتابه «هذا الكون: ماذا نعرف عنه» سفراً علمياً رائعاً، عرض فيه الدكتور راشد المبارك - رحمه الله - عدداً من قضايا علوم الطبيعة والكون والرياضيات، إضافة إلى السياسة والدين وفق أسلوبه العلمي الدقيق ولغته العربية الناضجة التي كان - رحمه الله - يفاخر بها اللغات، كل اللغات، ويتصدى لمن ينتهكها أو يقلل من شأنها. ويعد هذا الكتاب رحلة علمية جاذبة ممتعة مستقطبة في حقول عدة من نظرية المعرفة الكونية المعاصرة، كفيزياء المجموعة الشمسية والخصائص الفلكية للنجوم والمجرات والثقوب السوداء وفي أبستمولوجية نظريتي النسبية الخاصة والعامة وآلية الكم وفلسفة هذه النظريات وكينوناتها المدهشة. كما تضمن الكتاب مناقشة فكرية متعمقة لأثر التقدم التقني على المسار العلمي المعاصر من ناحية، وتأثير القوانين الطبيعية على الفكر الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي في الغرب، وتأرجح المقولات العلمية بين التغير والثبات من ناحية أخرى؛ لهذا كان الكتاب - وما زال - مرجعاً للقاصي والداني في علوم الكون، ومدرسة تعكس منظوراً فريداً في التأليف العربي، وإضافة رائعة للمكتبة العربية في هذا المجال. ولا شك أن قلم الدكتور راشد المبارك البليغ وتخصصه العلمي الدقيق في كيمياء الكم وميكانيكياتها المتنوعة وخلفيته الرصينة الراسخة في أعماق علم الكون وفلسفته وثقافته الموسوعية قد أعطى كتاب «هذا الكون» التميز العلمي الذي يعد سمة لما يكتبه الدكتور راشد، وديدن مساره العلمي الفكري المرموق. وقد نجح كاتب هذا المؤلف في رأب الصدع بين العلم المتخصص الدقيق الذي يهابه الناس والثقافة العلمية العامة التي يعاني البنيان الفكري لأمتنا نقصاً حادًّا فيها. فجاء الرأب في الكتاب مسدداً هذا النقص، وشاملاً في إحاطته، وعميقاً في أسلوب عرضه ومحتواه، وكاشفاً للغوامض في أمور لا يمكن كشفها بمثل هذه الإحاطة والدقة التي وردت في هذا الكتاب إلا من قبل قامة علمية كقامة الدكتور راشد المبارك -رحمه الله -. وإنني أتفق مع ما ذكره د. المبارك - رحمه الله - في هذا الكتاب من أن «مدارك البشر ومعارفهم هي مقربات الرؤية الكاشفة لأبعاد هذا الكون، وأن مجال الرؤية يتسع بهذه المقربات بقدر اتساع المعارف ونضج المدارك». وأعتقد أن اقتران الخيال بالفكر، والتذكر بالتصور، هو الزاد الحقيقي لمن أراد أن يستمتع بتجليات الكون المتوهجة ودقائقه المتخصصة التي عرضت معانيها في هذا الكتاب ومفاهيمها دونما إخلال بدقتها أو مساومة بصحتها. ولم يكن هذا الكتاب هو الوحيد الذي يحمل مدرسة د. راشد المبارك الفلسفية وفكره، وإنما هناك مؤلفات أخرى لا تقل جودة وإتقاناً عن كتاب «هذا الكون». ولا شك أن خلفية د. راشد المبارك الفلسفية المتعمقة وفكره الناضج وعلمه الغزير وشاعريته المتألقة ومشاعره الإنسانية الكريمة والوجدانية المرهفة قد أكسبت كتبه وأبحاثه ألق العالم الأديب وتأمل الفيلسوف الحالم المحلق. وقد تجلت هذه السمات في كتابه الموسوم (قراءة في دفاتر مهجورة) الذي دعا فيه إلى حلف فضول جديد موظفاً فيه رؤيته الفكرية وتحليله الفلسفي في أسباب خمود جذوة الفكر الإسلامي ومغالاة الأمة في صناعة الكلام التي صرفت الأمة في رأيه - رحمه الله - عن مجالات عديدة أخرى، وزهدتهم فيها، بل إنه يرى - رحمه الله - أن فن إجادة الكلام أو هندسته هو الوثيقة التي يجتاز بها كل الحدود والمواقع والحصون إلى صدور المجالس وعطاء السلاطين وكراسي المناصب عبر التاريخ. ونتج من ذلك - كما يرى د. المبارك طيب الله ثراه - أن كتب في هذا المجال أثقل ما تنوء به المكتبة العربية من أحمال، وأن يكون أضخم الكتب التي عرفها تاريخ التأليف كتاب «صبح الأعشى في فن صناعة الإنشاء». وينوه - رحمه الله - في هذا الصدد بالدور القرآني الفاعل والسنة الطاهرة في الحث النوعي على التفكر في جوانب الكون وتأمل أسراره وسننه. ومع كل ذلك الإبداع القرآني المحفز على الإنجاز إلا أن العقل العربي قد وقف في رأيه - رحمه الله - «عند قفا نبك» وقوفاً طال به, كما يقول د. المبارك - طيب الله ثراه -, حتى أصابه (أي العقل العربي) ما يشبه الشلل المعجز عن الحركة نحو الآفاق الأخرى من المعرفة. فقد صارت إجادة الكلام قولاً وكتابة، نثراً وشعراً، نقداً وشرحاً، هي العلم في رأيه الذي يقصد، والموئل الذي يحج إليه. وصار من يطلق عليهم وصف العلماء هم المبرزين في هذا المجال أو المجالات المرتبطة به في الشرح والتفسير.ويرى - رحمه الله - أن لفظ «علماء» المحلَّى بأداة التعريف بمعناها الاستغراقي للصفات لم ترد إلا في موضع واحد في القرآن, وأنه جاء بعد توجيه النظر إلى ما يمكن أن يكون إشارة إلى علم الأحياء من النبات والحيوان والإنسان وعلم طبقات الأرض، وذلك في قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}.
4- البعد الرابع: فلسفة وجدانية شاعرية تأثرت - في رأيي - بفلسفة فكره ومنظوره عن الحياة والكون. ولا شك أن ديوانه «رسالة إلى ولادة» يعد سفراً لأعماق د. راشد المبارك، يدغدغ فيه عواطف قرائه، ويسحرهم بلغة شعره الجياشة الفياضة، ويرحل بهم ليحط بهم الرحال في مكامن كشف الغطاء والغوامض عن شفرات رموز شعره. إن شعر د. راشد صور تتحرك ضمن أطياف الشاهد المقيس من الحالات التي تبهر المتلقي وتدهشه؛ فتجعله يعيش تجربة حية تثير عواطفه ومكامن وجدانه، وتوقظ فيه استشعار الشعر وشاعرية الشاعر؛ لينساق بعقله وعاطفته معاً وراء الأداء البارع في التصوير وشعرنة الأحداث والانتقاء الموفق للفظة التي تسبح بقارئها بلغة علمية وألفاظ مصطلحية ضمن أطياف الماضي والحاضر متجاوزة سقطات الزمان وعجائب المكان وأهواله نحو زمكنة مستقبلية تجديدية مشرقة مليئة بالأمل رغم الألم الذي يكتنفها. فالشعر عند د. راشد المبارك - رحمه الله -فلسفة فكر ومنطق وجدان وجسر للأمل رغم مثبطات الأمل وهول محفزات الألم واليأس لحاضر ما مضى وماضي ما حضر من الظواهر والأحداث والحالات، مؤملاً - رحمه الله - أن لا يكون ما استقبل من الزمان وصروفه في شعره مثل ما استدبر من ماضي زمان أمته وحاضرها. ومن يسبر أغوار هذا الديوان يجده نمطاً متفرداً من أنماط الوجد والألم والأمل وكل توافقات النفس البشرية وتعارضاتها ومقارباتها أو مفارقاتها. وقد تأثر بعض شعره بتخصصه الدقيق وفلسفة فكره المنبثقة من آلية الكم التي تصف سير الضوء من مصدره إلى مبتغاه في دفقات غير متصلة الأطياف، يطلق على كل واحدة منها (كوانتا)، أي دفقاً متقطعاً غير متواصل المسير. كما تأثر شعره أيضاً بمنهجيته العلمية الاستقراء - استدلالية في النظر والتجريب والاستنباط والتعميم. والحقيقة، إن فسيفساء شعر د. راشد المبارك - رحمه الله - لم تكن لتتشكل لولا عبقرية شاعرنا وقدراته الفكرية الناضجة وفلسفته الواعية ووجدانه الصادق وحسه المرهف ولغته الرصينة وثقافته الموسوعية وفكره العلمي الممنهج فلسفياً ومعرفياً.
وأخيراً، إن ما كتبه - رحمه الله - عن المتنبي وحكمته التي فاقت في رأيه شعره، وعن «نزار قباني بين احتباسين»، لتدل دلالة واضحة على عمق فلسفته الشعرية وسمو ذائقته النقدية ورفعة فكره الناقد.
إخواني، إن مقالي هذا الموسوم «أضواء على فكر د. راشد المبارك وفلسفته العلمية» ما هو إلا غيض من فيض، بل إن ما سطرته عن د. راشد - طيب الله ثراه - في هذه الصفحات ما هو إلا جهد المقل، وعذري فيه أن ما لا يدرك كله لا يترك جله.
رحم الله د. راشد المبارك رحمة واسعة، وتغشاه بفضله وكرمه، وجعل قبره روضة من رياض الجنة، وثبته بالقول الثابت، وأنزله في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، وعظم أجر أسرته وذويه ومحبيه وأجرنا أجمعين..
وداعاً أيها الرفيق الغالي، وإنا على فراقك يا أبا بسام لمحزونون. و{إنا لله وإنا إليه راجعون}.
- أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير