تكونت المدينة العربية الجديدة التي تضم مكونات مختلفة من المجتمع، وتخلف في تكوينها المكون العرقي، بالإضافة إلى البحث عما يكون ذلك الإنسان العربي من تقاليد، وعادات، وأشعار، وأخلاق، ولغة، وأصوات، ولهجات وفرغت في الكتب وفي صدور الرجال حتى أصبح ذلك الإنسان المتفرد في تكوينه الذي يمثل مادة الإسلام في قول عمر مفتتاً في جزيئات معينة. هذه الجزيئات يمكن أن يعاد تكوينها من خلال تمثلها في إنسان المدينة الجديدة المتكون حديثاً من هذا المزج الجديد بين الذات العربية القديمة، وعلاقات الجوار، والمصاهرة، والمصالح المشتركة في المكان الواحد.
ولعله من اللافت للانتباه أن أبرز أولئك العالمين بمكونات العربي القديمة هم من غير العرب أصالة، مما يعني أن أولئك الأقوام الحديثي عهد بتعرب قد أصبحوا هم المرجع بما يصبح به العربي عربياً، فإذا أشكل شيء على أحد من الناس فزع إليهم يطلب علم العرب والعربية، وهو ما يعني أنهم تمكنوا بالعروبة أكثر من أهلها أصالة، وأصبحوا أكثر تمثلا لها منهم. فقد أصبح الفارسي، والتركي، والشركسي، والرومي، والزنجي يقتسمون هذا الإرث وينتسبون إليه، ويدافعون عنه أشد الدفاع كما رأينا لدى أبي عثمان الجاحظ في دفاعه عن العرب وعاداتهم ضد الشعوبين، وسيبويه في كتابه الكتاب وبحثه عن العلة في كل دقيقة من دقائق كلام العرب وطرائقهم في القول، وكما لدى ابن جني في كتاباته حول «شجاعة العربية» وطريقة كلامهم، واتساقه ورد كل ما لديهم إلى طبع صحيح، أو ما قاله ابن المقفع فيما أورده أبو حيان التوحيدي، وكذلك موقف أبي حيان نفسه في أغلب كتاباته.
وبعد هذا التحول لمسألة «العروبة» الذي لم تعد فيه عرقاً ثابتاً وإنما أصبحت معطيات موضوعية يشترك هؤلاء جميعاً في إدراكها ومعرفتها، وأصبح المفهوم القديم لها الذي يعني العرق مفهوما تاريخياً ماضياً، يرتبط بقوم معينين يأتون من البادية من جهة، وبمرحلة تاريخية ماضية وهو ما جعل بعض الباحثين يرى أن كلمة العرب تطلق على الأعراب، وهي تطلق عليهم من تلك الزاوية.
هذا التحول في مفهوم العرب والعروبة، طرح السؤال مرة أخرى عن قيمة العرب في أنفسهم كجنس من الأجناس بعد أن تحولت مكوناتهم إلى أدوات مشاعة بين جميع الأقوام، وأصبح الحديث بالعربية، ومعرفة أشعارهم وأيامهم، والتخلق بأخلاقهم ليس خاصا بهم، فخرجت فئة من الناس لا ترى للعرب في أنفسهم فخرا، ولا قيمة بل هم كغيرهم من الشعوب أو أقل منهم. وقد واجه ابن تيمية هذه القضية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم، وأفاض في الحديث عن الأجناس وفضلها، ووقف عند الأحاديث الدالة على حب العرب، وقسم العرب إلى أقسام عدة: عرب نسبا، وعرب لسانا، وعرب دارا، وعرب ابتداء وعرب انتقالا، ووقف عند الحديث عن طبائع العرب وأخلاقهم في حديث يشبه حديث ابن المقفع الذي أورده صاحب الإمتاع والمؤانسة ثم قسم ديار تلك البلاد بحسب حظ أهلها من العربية، وخلص إلى أن من أتقن لسان العرب وخلقهم فهو منهم، ومن انتفى عنه ذلك فليس منهم ولو كان في أصله هاشمي النسب، واستند على ذلك ببعض الآثار كقول أبي جعفر الباقر: «من ولد في الإسلام فهو عربي».
هذا التفتت في مكونات العروبة واندماج الناس بعضهم ببعض جعل كثيراً من الناس لا يعرفون ما أصولهم، فهم يتحدثون العربية ولا يعرفون سواها، وهم يدينون بالإسلام، ويتخلقون بخلق العرب، وقد أشار ابن تيمية إلى هذا حين قسم الناس في أنسابهم إلى ثلاثة أقسام: «قوم من نسل العرب وهم باقون على عربيتهم، وقوم من نسل العرب صارت العجمية لسانهم ودارهم أو أحدهما، وقوم مجهولو الأصل وهم أكثر الناس اليوم».
على أن هذا الاتساع في مفهوم العروبة، واتساع الهوية العربية في مفهومها في ذلك الزمن لأن تكون قادرة على استيعاب كل من تشبه بالعرب، وأتقن لسانهم، فإن هذا لم يمنع من ظهور بعض المتعصبين من أبناء الأمم الأخرى ممن لا يحب العرب، وهم الذين يسمون بـ»الشعوبية»، وأصلها منسوبة إلى الشعوب غير العربية في حين ينتسب العرب إلى القبائل، يبحثون في عيوب العرب، وينسبون إليهم كل منقصة، ويحاولون أن يظهروا عاداتهم وتقاليدهم.
وقد ازدهرت هذه الظاهرة -كما هو معلوم- في العصر العباسي، حين استقرت دولة الإسلام، وازدهرت حواضره، وكثر المرتحلون إليها من أبناء الأمم الأخرى، ومن أبناء الموالي خاصة أبناء موالي كبار الصحابة الذين احتلوا مكانة عالية في الأزمنة اللاحقة، مما جعلهم ينقلون ثقافتهم الأولى، ويصرون أن تكون في موازاة مع الأخلاق العربية، بل نجد أن كثيرا منها أصبح جزءاً من المجتمع العربي في ذلك الزمن كعيد النيروز الذي هو عيد فارسي، ومثل كثير من العادات الفارسية في الأكل والمعاش التي دخلت المجتمع العربي.
وقد أصبحت هذه العادات إشارات رمزية للإعلاء من القوميات الأخرى، والتعصب لأهلها، كما رأينا مثلا في المناظرة بين صاحب الكلب والديك، أو صاحب العصا عند الجاحظ الذي تحدث عن الشعوبية في كتبه كثيرا، ودافع عن العرب وثقافتهم، وكما في ذم الوقوف على الأطلال في مقدمات القصائد واستبدالها بوصف الخمر كما هو لدى بعض شعراء العصر العباسي أو الفخر بالأصول الفارسية والرومية كما هو لدى بشار بن برد وأبي نواس. بل تجاوز الأمر إلى وضع كتب في فضل الفرس، والاستشهاد بأحاديث في مدحهم كالحديث الذي وضع فيه النبي يده على سلمان الفارسي، وقال: «لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء»، أو قوله: «لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس»، وهي أحاديث جاءت في سياق الثناء على سلمان، وإصراره في طلب الحق، والبحث عنه.
يقول الجاحظ في ذلك: «إن عامة من ارتاب بالإسلام إنما كان أول ذلك رأي الشعوبية والتمادي فيه وطول الجدال المؤدي إلى الضلال، فإذا أبغض شيئا أبغض أهله، وإن أبغض تلك اللغة أبغض تلك الجزيرة، وإذا أبغض تلك الجزيرة أحب من أبغض تلك الجزيرة، فلا تزال الحالات تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام، إذ كانت العرب هي التي جاءت به، وهي السلف والقدوة».
ولا تقتصر هذه الملامح على الظواهر الأدبية والاجتماعية بل يتجاوزها إلى الصراع بين المظاهر العلمية أيضاً، وقد كنت اعتبرت الموقف من النحو وعلوم العربية في مقابل المنطق صورة من صور اعتبار النحو معبراً عن الذات القومية العربية (الهوية) في مقابل الهوية الأجنبية اليونانية، وكما أن النحو معبر عن اللسان العربي الذي هو عماد «العروبة»، فإن المنطق معبر عن لسان يونان الذي هو عماد الهوية اليونانية.
لقد تحولت «العروبة» إلى قومية كاملة. هذه القومية لا تقوم على العرق، وإنما جماع مكونات ثقافية، واجتماعية، ولغوية يتنازعها عدد من الأعراق، ويتنافسون في الدفاع عنها وعن مكوناتها كل يرى أنه أصيل فيها، وأنه لا فخر لأحد عليه فيها. وظهور فئة من الناس لا تؤمن بذلك، وترى التعصب للغتها القومية لا ينافي ذلك بل قد كان له الأثر في إذكاء الشعور القومي العربي، وبعث الإحساس بالهوية العربية الجمعية، ودفع عناصر لم يكن منها صليبة للدفاع منها، وتعزيز إشاعة حق الانتساب إليها، كما هو لدى الجاحظ، والسيرافي، والتوحيدي، وابن تيمية وغيرهم.