مهما بلغت درجة خلافاتي مع أمريكا سياسياً لكنني لا أختلف معها سينمائياً سوى في موقفين، الأول موقفها من السينما في بلدي حين تم تهديم كل صالات السينما في العراق عام 2003، وخلافي الثاني موقفها من السينما السوداء الأمريكية الذي شكل االبقعة السوداء في تاريخها السينمائي المضيء.
أمريكا دون شك معلمة العالم سينمائياً، فإنها صاحبة المدرسة القياسية في استخدام مفردات لغة السينما.
كانت خلافاتي السابقة مع أمريكا تندرج في عنصريتها سينمائياً حين نفذ المخرج «جريفث» مخرج أول فيلم روائي في العالم «ميلاد أمة» عن الحرب الأهلية بين الجنوب والشمال، فصبع ممثلين بيض بالصبغ الأسود لكي يمثّلوا أدوار الشخصيات السوداء في الفيلم. لأن السينما محرمة على الممثل الأسود أن يلعب فيها، وكان الصبغ واضحاً، فإضافة إلى ضعف الجانب الفني في هذه العملية فأنها كانت استفزازاً لمشاعر السود الذين خرجوا في مسيرات احتجاج على المخرج «جريفث» كان ذلك عام 1917 . كانت أمريكا تحرم ظهور السود في السينما لأنهم غير جديرين الارتقاء في سلم هذا الفن الحضاري الساحر، ما اضطر ذلك الفنانين الزنج إلى إنتاجهم أفلامهم بأنفسهم وسميت تلك الأفلام في تاريخ السينما بـ «السينما السوداء» وكانت سينما تصنع بإمكانات إنتاجية فقيرة وكثير منها غاب عن تاريخ السينما، حيث لم تحصل تلك الأفلام على شروط الحفظ والأرشفة النظامية فتلفت، وهي تصل إلى مستوى الجريمة في حرمان الفيلم الأسود من البقاء على قيد الحياة.
تولى المخرج والمنتج الأسود «أوسكار ميشو» إنتاج وإخراج تلك الأفلام وحرموه حتى من طرائق حفظ تلك الأفلام التي رفض الأرشيف الأمريكي استقبال تلك الأفلام السوداء في غرف الأفلام البيضاء الملونة. حتى فرض عدد من المبدعين السود قدراتهم على السينما الأمريكية.
ففي الثلاثينات ازداد عدد الممثلين السود في السينما، وبرز المغني»بول روبسون» كممثل بارع، مع أن السينما حاولت أن تقلل من أهميته. لقد كان بول روبسون موهبة كبيرة في التمثيل إضافة إلى موهبته كمغن بارع. فلقد برز في فيلم «الإمبراطور جونز» من إخراج « دادلي مورفي» عام 1933، وكان قبلها قد لعب أحد الأدوار الرئيسية مع المنتج والمخرج أوسكار ميشو عام 1924 دون أن تسلط عليه أضواء الإعلام. إن بول روبسون استطاع رغم كل محاولات التحجيم أن يثبت قدرات كبيرة في عالمي التمثيل والغناء. محاولات عدم تسليط الأضواء على قدرات بول روبسون دفعته للسفر إلى بريطانيا، واضطر لقبول أدوار قصيرة لا تتناسب مع موهبته، حتى برز في فيلم «الوادي الفخور» واعتبر هذا الفيلم تتويجاً لموهبته، وهو من الأفلام التي أنصفت موهبة روبسون.
ومن يستطيع أن ينسى شخصية الخادمة السوداء في فيلم «ذهب مع الريح» والذي لعبته الممثلة السوداء الكبيرة «هاتي ماكدانيال»؟ لقد تألقت هذه الممثلة في عدد من الأفلام كان أهمها فيلم «ذهب مع الريح» مع «كلارك كيبل» و»فيفيان لي» وبهذا الفيلم حازت السوداء «هاتي ماكدانيال» على جائزة الأوسكار كأفضل ممثلة عام 1939. إن للمثلين السود قدرات في العمل الدرامي، إلا أنهم قدموا وبأدوار ثانوية أمام الممثلين البيض، ويقدّمون كعارضين أو مغنين في مشاهد عابرة. لقد لعبت هاتي ماكدانيال في فيلم «المركب الاستعراضي» دوراً قصيراً مع بول روبسون إلى جانب الممثلين البيض، وفي هذا الفيلم قدّم روبسون أغنيته الخالدة (coldman river ). على الرغم من دوريهما الثانويين، ماكدانيال وروبسون، إلا أن النقاد قالوا «أنهما أفضل الممثلين على الإطلاق في الفيلم».
تبذخ السينما الأمريكية اليوم المال الوفير على إنتاج أفلام مستقاة موضوعاتها من حياة الشعب الأمريكي الأسود وتقدم أجمل الأفلام التي تخلب الألباب حقاً. كل لقطة من الفيلم قيمة فنية ساحرة بذاتها. كل حركة كاميرا قيمة جمالية ساحرة كل إضاءة مشهد، جمال الملابس وأزياء الممثلين. نجح الممثّلون السود في احتلال الشاشة البيضاء وبقيمة فنية جمالية فاقت التصور.
لم تعد السينما السوداء سوداء، بل إنها لونت الشاشة البيضاء اليوم بأجمل الألوان. وتعرض لنا قناة الأم بي سي - ماكس العالمية إلى جانب قناة الأرتي العالمية أفلاماً كثيرة هذه الأيام وكلها عن حياة الجنس الأسود في أمريكا وذلك بمثابة رد الاعتبار للجنس الأسود في أمريكا وبمثابة الاعتذار من السود سينمائياً.
أمريكا التي أعادت الاعتبار للسينما السوداء مطالبة بأن تعيد الاعتبار لصالات السينما في العراق التي هدمها القصف الجوي والقصف الإيديولوجي الجديد وهي مطالبة للعمل على استقرار الوطن العراقي لتزدهر من جديد أفلام المجتمع الأمريكي على شاشات المجتمع العراقي!