تبحث الأرواح المفعمة بالدهشة والفن والحنين عن الفضاءات التي يتحقق فيها التحرر من وطأة الجسد، في اتجاه الكون الأعلى، أو تفتيت ذلك الجسد (نهائيا)، من أجل الوفاء لقيمة عليا يهون الموت من أجلها، أو الاستغراق في إيقاع ينهك الجسد، حتى يستحيل ريشة تذروها رياح الوجع بعيدا.. بعيدا عن الأرض!
يتجول (فرانسيس) بأمر (كازانتزاكس) في أزقة (إيسيزي)، والقمر بدر معلق في كبد السماء، والأرض بكاملها تعوم في فرح طاغ في الجو، ولكنه يصطدم بالناس النائمين في ذلك الوقت، من طقس الكون المهيب، فلم يتردد في الصعود إلى أعلى الكنيسة، قارعا أجراسها المنادية، حتى يجتمع الناس مذهولين في تلك الساعة المتأخرة من الليل، فينظر إليهم (فرانسيس) من عل قائلا: «ليس ثمة شيء.. فقط انظروا إلى القمر». ويبوح لنا (آرسو) عن أسرار رحلته مع أستاذه (غوليالمو)، عبر أنساغ الروح الباحثة عن خلاصها لدى الأرجاء المعتقة ببخور التراتيل في (دير) الرهبان العتيق، الذي أعاد اكتشافه (إمبرتو إيكو) في سبعة أيام مدهشات: «واجهنا الصرح المقدس في الدير العظيم، من خلال عمودين مستقيمين وعاريين، تنطلق منهما فتحتان اثنتان، تعلوهما أقواس أخرى متعددة، تقودان النظر إلى الفضاء، الذي لكأنه يغرق في لجة عميقة، فإذ أنا أصغي لحديث صامت للحجارة المنحوتة بدقة وبهاء، وإذ بنور شفاف يلج من الخارج، فينعكس على المخمل الأحمر حول المذبح، ليظهر طيف من سواد كاهن المكان واقفا يصلي. أغرقني ذلك المشهد في رؤيا لا يزال يصعب على لساني وصفها حتى الآن..» أما عندما تتجلى تلك الروح الباذخة، بعد جهد مستحيل للاستهانة بحياة الجسد تقويضا في اتجاه العدم والخلاص، من أجل الوفاء لقيم الروح الإنسانية في نضالها مع الحياة، فعندها (يبرغ) لوركا بجوار قصر الحمراء الأندلسي ينشد موته: «أريد أن أموت لأرد عنك الموت في سبيل المثل الأعلى الذي كان يضيء عينيك ويا أيتها الحرية! كي لا يطفئ أحد شعلتك العلوية هاأنا أهب نفسي بكليتها! لترتفع القلوب عاليا عاليا!» فتتردد هناك في الشام، تراجيع ذلك القرار الشقي للوركا، ببكاء شآمي للشاعر محمود دويش، يرثي فيه لوركا: «عازف الجيتار في الليل يجوب الطرقات ويغني في الخفاء وبأشعار يلم الصدقات من عيون البؤساء». وفي تجل آخر للأرواح التي أنهكها الفن والحنين، تتجلى الروح نشيجا عذبا، يتملك وعاء الروح، فيستفزها لتماوج إيقاعي راقص، من شأنه أن ينهك الجسد، لتقوى الروح، فلا تخاف من شيء أبدا..يرقص (سعيد) على غناء (معجب الزهراني) ثم يعبر عن فعلته التحررية بقوله الراقص: «لا لم تكن مجرد عرضة.. كانت مظاهرة حب وغضب.. رقصة احتفال وقتال.رقصة جنون وجمال. رقص (كل شيء) معنا وبنا ولنا، وقد رقص كل هذا، ليتحرر الإنسان في داخل كل منا، فلا يخاف من خصم أبدا». وبتفال آسر مع ذلك الرقص المستجيب لغناء الروح، تنهض (رجاء عالم) من بين كلماتها الموسيقية الراعشة، فتأخذ (عودها) وتسلمه (لخاتم)، ليصيغا معا ذلك المشهد الآسر: «كل حيويات خاتم انصبت لحوض جسدها متمثلة جسد العود، تناولت زرياب (عالم) أصابع (خاتم) المسلوبة بالرهبة، وقعت بها في ضمة لعنق العود، ارتعد الجسدان في توافق.
برفق فرقت الأصابع على الأوتار المسبوكة من حي، هتفت بصوت أقرب لتنفس الهواء: المسي الزير»!.