تمر بالإنسان العربي تيارات ورؤى فكرية متنوعة يرى في بعضها الرخاء والدعة، ويرى في بعضها الآخر الجحيم المعجل والعاقبة السوداء.
الاستشراق أحد هذه الرؤى التي تنازعها القناعات الفردية وزعزعت نفس المتلقي العربي، بل جعلت الكثير من المجتمعات العربية تنقسم إلى قسمين متضادين تماماً.
بينما هناك فريق ثالث كان أهدأ نفساً، وأبعد مدىً في رؤيته الفكرية بحيث أتت رؤيته «بينَ بين» فلم يشنع الوصف المقذع للمستشرقين، ولم يجعلهم كالملائكة قدسية ونزاهةً. وإذ تجدر الإشارة إلى تعريف ألبرت ديتريش للمستشرقين، فقد عرفهم بأن المستشرق «ذلك الباحث الذي يحاول دراسة الشرق وتفهمه، ولن تأتي له الوصول إلى نتائج سليمة في هذا المضمار ما لم يتقن لغات الشرق». فمن هذا التعريف المهم نوجز ما يلي: كلمة «استشراق» مشتقة من الشرق، فهو إذن علم الشرق بجغرافيته وتاريخه وآثاره المتنوعة من مبان، ومؤلفات شتى، وعادات لها بعدها الزمني. وذهب أصحاب كتاب المفصل في تاريخ الأدب العربي إلى إن المراد بالمستشرقين «كل من تجرد من أهل الغرب في دراسة بعض اللغات الشرقية، تقصى آدابها طلباً للتعرف شأن أمة أو أمم شرقية من حيث أخلاقها وعاداتها، وتاريخها وديانتها أو علومها وآدابها، أو غير ذلك من أسباب الأمم، فالأصل في كلمة استشرق أنه صار شرقياً، كما يقال استعرب إذا صار عربياً».
وكان أول عهد الغربيين بالاستشراق يرجع إلى القرن العاشر الميلادي، بسبب ما نال العرب من الحظ العظيم في العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية وغيرها من علوم الحياة، وبعد قرنين من ذلك التاريخ كانت مدن الأندلس مورداً لطلاب العلم من الإفرنج بين دارس وناقل، ولم يكد يدخل القرن السادس عشر الميلادي إلا وقد جعلوا يعلمونها في بعض المدارس، كما أقبلوا على إنشاء المطابع العربية تحقيقاً لما سلف من الأغراض، على أن الزمن لم يطل حتى أصبح الاستشراق فناً قائماً بنفسه، يطلب لدرس اللغات الشرقية وآدابها وفنونها وأدبيات أهلها وعادتهم ونحو ذلك.
وإن للاستشراق دواعيه ومسوغاته، فقد تعددت الآراء حول أهداف الاستشراق والمستشرقين، فالمؤكد أن جهودهم لم تكن متوافقة في دراستهم للعرب والشرق. وممن أشار إلى هذه القضية الدكتور ميشال جحا في كتابه (الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا)، فقد حصرها في عشرة دوافع، أوجزتها لك عزيزي القارئ فيما يلي:
1- دافع ديني تبشيري.
2- دافع استعماري.
3- دافع سياسي.
4- دافع علمي.
5- دافع تجاري.
6- دافع النفط العربي.
7- دافع جغرافي وإستراتيجي.
8- دافع شخصي.
9- قصص ألف ليلة وليلة.
10- حملة نابليون على مصر
( 1798 – 1801 م).
ولنتيقن من صعوبة الإلمام التام بموضوع الاستشراق، ونختتم بأنموذج منهم، وهو المستشرق الألماني (أنطوني بيفان 1933 م) الذي اختير أستاذاً للغة العربية في كمبردج، وكانت معرفته بالعربية ممتازة، فقد خدم النقائض من خلال المخطوطات المصورة التي خلفها أستاذه (لوليام رايت 1889م)، كما أصدر عام 1888 م ترجمة للشعر العربي القديم، إضافة إلى نشر وترجمة قصيدة الشاعر العربي الأعشى بجملة دراسات شرقية ص 285 – 292، وبعد رجوعه إلى إنجلترا حقق ونشر النص العربي لديوان عبيد بن الأبرص، وديوان عامر بن الطفيل عن مخطوطة فريدة في المتحف البريطاني.
وإذ تجدر الإشارة إلى إمكانية الاستفادة الغزيرة من الكتب التالية: المفصل في تاريخ الأدب العربي لأحمد الإسكندري وآخرين، وكتاب الدراسات العربية في ألمانيا لألبرت دتيترتش، وكتاب الدراسات العربية الإسلامية في أوروبا للدكتور مشيال جحا، وكتاب جهود المستشرقين في التراث العربي بين التحقيق والترجمة للدكتور محمد عبدالرؤوف.