مقدمة في مقاربة الحجاج
حينما يتتبع باحث مفهوم الفصاحة في اللغة العربية يجد القدماء من البلاغيين والنقاد وأصحاب المعاجم ينطلقون في البداية من المعنى المعجمي الحسي المباشر وينقل بعض استعمالاته صاحب لسان العرب حيث يقول: يوم مُفصِح: لاغيم فيه ولا قَر... وأفصح اللبن ذهب اللبأ عنه، والمُفْصِح من اللبن كذلك، وفَصُحَ اللبن إذا أُخذت الرغوة عنه، قال نَضلة السُلًمي:
رأوه فازدروه، وهو خِرقٌ
وينفع أهله الرجل القبيح
فلم يخشوا مَصَالتَه عليهم
وتحت الرغوة اللبن الفصيح
وأفصحت الشاة والناقة: خلص لبنهما... وأفصح البول: كأنه صفا،... وأفصح الصبح بدا ضوءه واستبان. وكل ماوضح فقد أفصح «
ومن هذا المعنى الحسي المباشر أطلق العرب على كل شيء إذا وضح فصيحاً ومن ذلك كما يقول ابن سنان الخفاجي ماورد في القرآن الكريم (وأخي هارون هو أفصح مني لساناً).
وعند محاولة إجراء عمليات الوضع المفهومي لمصطلح كلمة (فصاحة) في البلاغة العربية نجد القدماء حاولوا قصر الفصاحة على كل ما يقرب من المعنى الحسي المباشر للفظة وهو الظهور والبيان، فنجد جلال الدين القزويني يقسم الفصاحة ويعرف مفهومها تبعاً لكل قسم، ففصاحة المفرد: هي خلوصه من تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس اللغوي...، وفصاحة الكلام: هي خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد... أما فصاحة المتكلم: فهي ملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح...
والصعوبة التي واجهت صناعة مصطلح الفصاحة تتجلى في ثلاثة نواح:
أولاً: اختلاط مفهوم مصطلح الفصاحة بمفهوم مصطلح البلاغة، ولأجل التفريق بينهما عمد البلاغيون والنقاد القدماء إلى متابعة المعنى الحسي المباشر للوصول إلى فرق واضح بينهما، واستقر معظمهم على أن البلاغة تعني مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته، ومع ذلك فإنهم اضطربوا في التفريق بينهما نجد مظاهر ذلك الاضطراب عند أبي هلال العسكري، وعند عبدالقاهر الجرجاني... وليس المجال هنا هو مجال الخوض في هذه الناحية الاصطلاحية المهمة.
ثانياً: أن مصطلح الفصاحة ليس مصطلحاً علمياً مقفلاً، والمصطلح العلمي المقفل هو الذي لا يستعمل في غير دائرته الاصطلاحية إلا بالإشارة إليها. فالفصاحة هي مصطلح اجتماعي عربي، ومصطلح لغوي، ومصطلح نحوي أيضاً، وبناء على ذلك يلفت النظر ما لحظه ابن منظور من أن الفصاحة تطلق عند العامة على الكلام المُعرَب أي الذي يلتزم بالضبط الإعرابي، وهو تطور في المصطلح اقتضته طبيعة التغيرات الطارئة على اللغة العربية نفسها، أو أن الفصاحة تعني اتباع الأساليب العربية، وذم طريقة المولدين الأسلوبية في صناعة الشعر كما يشير إلى ذلك الشاطبي في الإفادات والإنشادات.
ثالثاً: ارتباط هذا المصطلح بالعرب ؛ فالعرب فصحاء، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: إنه أفصح العرب. وهذا الارتباط بين الفصاحة والعرب دون غيرهم من الشعوب حتى أنهم كانوا يطلقون على ما سواهم (أعجمي) على الرغم من أن للأمم الأخرى لغات وآداب وبلاغة ، هو أمر مهم قلما التفت إليه الباحثون والمفكرون خصوصاً أن «أفصح كلام هو كلام الله باللسان العربي، وأفصح كتاب هو كتاب الله»
وفي هذا المقال ندعو إلى إعادة النظر في مصطلح الفصاحة لا من حيث نطاقه الضيق المرتبط باللغة، والنحو، والبلاغة، ولكن من حيث نطاقه الواسع المرتبط بالعرب، وهو في جلية البحث النطاق الطبيعي لهذا المصطلح.
فالفصاحة هي ظاهرة حضارية ارتبطت بالعرب أكثر من غيرهم من الشعوب، ولكن لا يعني هذا أن ارتباطها بالعرب هو ارتباط عنصري، بل هي توجد في الأمم الأخرى، ولكنها توجد لا من انبعاثات لغوية في الغالب، بل توجد من انبعاثات أخرى فكرية أو أدبية أو اجتماعية لتصب في اللغة أي أن الفصاحة متربطة بمكونات لغوية ثابتة صرفة في اللغة العربية، ومرتبطة بمكونات نفسية متغيرة في تكوين العرب قد تبقى وقد تزول.
أما الأمم الأخرى فتنطلق من عناصر مختلفة للوصول إلى الفصاحة أو الوصول إلى الهدف والنتيجة.
في حين أن العرب ينطلقون مباشرة من الفصاحة للوصول إلى عناصر مختلفة أو الوصول إلى الهدف والنتيجة. (وُظِّف هذا المفهوم توظيفاً بحثياً علمياً في بحث عنوانه « الغموض في أوليات النحو العربي وأثر الأوليات في التطور الإبستمولوجي للنظرية النحوية العربية، حيث كان الجانب اللساني عند العربي سابقا للجانب الفلسفي) وعلى ذلك فإن مفهوم الفصاحة عند العرب هو مفهوم حضاري ارتبط بهم ارتباطاً وثيقاً خصوصاً في العصر الجاهلي وعصر صدر الإسلام إلى نهاية القرن الرابع الهجري أي إلى نهاية الفترة الذهبية في الحضارة الإسلامية ثم انقرض هذا المفهوم سوى من بزوغ مفاجئ في مكان ما أو إشراقة مؤقتة لا تلبث أن تنطفئ ف ي مكان آخر.
ولكي نحدد مفهوم الفصاحة الذي ارتبط بالعرب أكثر من غيرهم ولا نبقيه عائماً نعمد إلى إيضاحه وحدد حدوده التي تدخل فيها بالضرورة التحديدات التي أشار إليها النقاد العرب السابقون ؛ فنجعل مفهوم مصطلح الفصاحة: ميزاناً دالاً على (قوة الإيضاح الحجاجي)
وهذا الميزان يتشكل من العناصر الآتية:
- العناصر اللغوية، وقد اختصت اللغة العربية بسبب تكوينها، وتأريخها بتوفر مكونات حجاجية تتميز فيها على كثير من اللغات.
- العناصر النفسية والاجتماعية ؛ إذ اختص العرب بقدراتهم، وملاكتهم التي جبلتهم عليها طبيعة نفوسهم التي تحب الوضوح، والحرية، والعدل، والشجاعة، والتضحية. وطبيعة الحياة الاجتماعية التي قامت على احترام الحجة القوية، ولعل هذا التميز هو ما أشار إليه الجاحظ حينما خص العرب بأن البلاغة فيهم بديهة وارتجال بخلاف الأمم الأخرى، وقد ذهب بعض النقاد المعاصرين إلا أن ذلك أقرب للعيب والازدراء على العرب منه إلى مدحهم. وذلك ربما يكون صحيحاً من بعض الوجوه، ولكنه لن يكون صحيحاً البتة إذا عرفنا تميز العرب بمفهوم الفصاحة وارتباطه بأنفسهم وبمجتمعهم، وبملاكاتهم، كمنطلق حضاري لغوي قيمي فكري لايشاركهم فيه غيرهم من الشعوب.
- جعل الكلام كمقدمة بنيوية للفعل أو كخاتمة عضوية له، بل إن الفعل جزء منه أي أن الحجاج الذي هو منطق يمشي على الأرض يصبح سفسطة أو يصبح هجراً أو لغواً من الكلام إن فقد صدقيته وارتباطه الحقيقي بالسياق والموقف والفعل.
فالحجة لا تكون إلا دفاع عن موقف ما، والفصاحة لاتكون إلا دفاعاً أو حماية لموقف حضاري قيمي بها يعد الفصيح فصيحاً ، وعلى ذلك فالفصاحة هي (قول وقيمة وفعل).
هذا الارتباط بالفصاحة عند العرب بمفهوم (ميزان القوة الحجاجية) يجعل الفصاحة عند العرب ظاهرة حضارية ارتبطت بتأريخهم بل بتأريخ الإنسان عموماً فقد كانت القوة الحجاجية العربية هي المقابل للانحرافات الحضارية والتحريفات الدينية والفكرية السابقة، بل إن القوة الحجاجية العربية (الفصاحة) كانت المقابل الحي للمنطق اليوناني المتجمد.
فالحجاج العربي من خلال (الفصاحة) كان حجاجاً حياً يقرن الحجة بالفعل، فلا فصاحة كاملة من غير تحقق عملي مفيد للإنسان على وجه العموم.
وإن الفصاحة لتصبح عندئذ سلماً للوصول بالإنسان إلى الحضارة الحقيقية التي تعني قيم العدل والإخاء والحرية والكرامة مقرونة بالتحقق الفعلي لها في الحياة، وكل ما من شأنه أن يعلي هذه القيم لا يتعارض مع الفصاحة وبذلك يكون التقدم في العمران والمدنية هي جزء لا يتجزأ من مفهوم الفصاحة.
فالفصاحة عند العرب هي «موقف حضاري واضح» ، وعلى ذلك يكون العرب (ظاهرة فصيحة) ولكنهم قد يتحولون إلى ظاهرة (صوتية) أي يتحولون إلى عرب (أعاجم) إذا خلى مفهوم الفصاحة لديهم من مفهومه الحضاري.
فليست المقولة الذائعة التي أطلقها أحد المفكرين العرب في إبان ظاهرة الانهزامية والتقهقر الحضاري العربي (العرب ظاهرة صوتية) ممثلة للحال العربي بإطلاق كما يذهب كثير من المحبطين، بل هي ممثلة للعرب غير الفصحاء ممثلة للعرب حينما تخلو عن أصول حضاراتهم، ومكوناتها التي تجعل الحجة المقرونة بالفعل هي عماد الحضارة.
ولكن متى بدأ هذا التحول عن الفصاحة كمفهوم حضاري عند العرب، وهل الفصاحة خاصية لاتزول عنهم.
إن التحول عن الفصاحة بدأ مبكراً عند العرب، فعلى الرغم من أن الحجاج بن يوسف الثقفي، وقبله زياد بن أبيه كانا من الفصحاء العرب في إبان ازدهار مفهوم الفصاحة بمفهومه الحضاري إلا أنهما كانا من البادئين بنقض ذلك المفهوم، فزياد بن أبيه كان يطلق حرية القول حتى إن كانت بسب الحاكم أو الاعتراض عليه ولكن بشرط ألا تتعدى إلى الفعل، وهنا يبدأ التسلط وتحييد جانب الفعل في الحجة، والحجاج بن يوسف كان لا يبارى فصاحة، وكان يحب أن يسمع العرب الفصحاء حينما يفدون عليه ليصفوا الصحراء والمطر، وكان يطلق المعارضين حينما يأنس فيهم القوة الحجاجية (الفصاحة) التي يفقدها هو في نفسه حينما يجعلها خلواً من مفهومها، ويجعل (الأصوات) أداة للظلم والتسلط ، ففي قصته مع سعيد بن جبير الذي كان مع مجموعة من القراء من الموالي (غير العرب) قد تشربوا الفصاحة كموقف حضاري، وانضموا مع ثورة ابن الأشعث ضد ظلم الحجاج، وكان أن قبض عليه الحجاج .
وينقل أبوهلال العسكري ما يلي أن الحجاج « هو أول من نقش على يد كل رجل اسم قريته، ورده إليها، وأخرج الموالي من بين العرب ... وكان الذي دعاه إلى ذلك أن أكثر القراء والفقهاء كانوا من الموالي، وكانوا جل من خرج عليه مع ابن الأشعث، وفأراد أن يزيلهم من موضع (الفصاحة) والأدب، ويخلطهم بأهل القرى فيخمل ذكرهم، وكان سعيد بن جبير منهم كان عبد رجل من بني أسد اشتراه من ابن العاص فأعتقه فلما أتى به الحججاج قال: ياشقي بن كسير، أما قدمت الكوفة، وليس بها إلا عربي، واستقيضت أبا بردة بن بردة بن موسى، وأمرته ألايقطع أمراً دونك، وجعلتك في سماري وكلهم من رؤوس العرب، وأعطيتك ألف ألف درهم تفرقها في أهل الحاجة لم أسألك عن شيء منها. قال: بلى. قال فما أخرجك عليّ ؟ قال بيعة لابن الأشعث كانت في عنقي. فغضب، وقال: أفما كانت بيعة أمير المؤمنين في عنقك من قبل ؟ والله لأقتلنك. قال: إني إذاً كما سُميت سعيداً، دعني أصلي ركعتين ، قال: ولوه إلى قبلة النصارى، قال سعيد: « فأينما تولوا فثم وجه الله «، ثم بطح على الأرض، فقال: « منها خلقناكم وفيها نعيدكم «، ومدت عنقه فضربت، فاختلط عقل الحجاج في الحال، فقال: قيدونا، فظنوا أنه يريد القيود التي في رجل سعيد، فقطعوا ساقيه، وأخرجوا القيود، ومازال الحجاج مختلط العقل حتى مات بعد أيام قلائل، وما قتل بعده أحداً»
إنها قصة معبرة أدل تعبير على البدايات الأولى لاختلال مفهوم الفصاحة الحضاري، فالحجاج العربي الفصيح صار غير فصيح، وسعيد بن جبير المولى أصبح هو الفصيح، والنتيجة هي اختلاط عقل الحجاج وعدم قدرته حتى على انتظام الكلام، وانتصار الموقف الحضاري لفصاحة سعيد بن جبير الذي جعلته يقف ضد الظلم حتى آخر قطرة من دمه.
إن الفصاحة حينئذ موقف حضاري يمكن أن تتحول من العربي إلى غير العربي أي أن الفصاحة لاترتبط بجنس بمقدار ما ترتبط بموقف حضاري، وإن كان العرب بطبيعة تكوينهم وبطبيعة تكوين لسانهم أميل إلى أن يتمثلوا الموقف الحضاري للفصاحة مقارنة بغيرهم من الشعوب.
ما الذي حدث بعد ذلك بدأ العرب يتحولون من ظاهرة فصيحة إلى ظاهرة صوتية رويداً رويداً والآن هم ظاهرة صوتية بالفعل، في حين بعض الأمم الأخرى هم الآن فصحاء في ذروة الفصاحة.
إن العربي إن فقد حرية التعبير عن رأيه فقد عروبته وفقد فصاحته، وعلى ذلك فمن المستحسن أن تقام جمعيات في العالم العربي بمسمى جمعيات إحياء الفصاحة تكون موكلة بمراقبة مقدار حرية التعبير واقترانها بمفهوم الفصاحة الحضاري الذي يربط قوة الحجة بالفعل كجزء من بنيتها، وكجزء من العروبة الحضارية التي هي لسان وليست بأب و لا أم.
فالعربية لسان بما تحويه من إمكانات الفصاحة الحجاجية وبما رفدها القرآن الكريم من إمكانات بلغت بها الذروة فصاحة. ولن يعجب الناظر إلى الدراسات اللغوية والبلاغية والفكرية في الغرب إن وصلت أخيراً إلى مفهوم البلاغة الجديدة التي يعنون بها الحجاج بعد دراسات طويلة، ومذاهب كثيرة في تقليب الكلام وارتباطه بالموقف والسياق، فما أتى لديهم بعد درس هو جزء من مكون العرب الحضاري ألا و هو «الفصاحة».
ولا يعني هذا أننا نؤيد الخطاب الهزيل المتكرر (غير الفصيح) الذي يردد منطوق أو مفهوم (أننا سبقنا الغرب في كذا، وكذا)، بل هي فقط إشارة إلى مفهوم للفصاحة غاب أو أهمل أو أقصي كرهاً عن واقع الدراسات الفكرية واللغوية.
والذي لا شك فيه أن الغرب كمنظومة حضارية تتمتع في هذا العصر بفصاحة لايمكن إنكارها، ولكنها فصاحة تختلف في طبيعة تكوينها عن الفصاحة العربية وإن كانت تؤدي ما تؤديه الفصاحة بالمفهوم الحضاري العام.
وتدني الفصاحة في الأمة العربية يطرد مع تدني العطاء الحضاري عموماً.
وختاماً فإن هذا الطرح حول مفهوم الفصاحة قد عرفه العرب الأقحاح أنفسهم نجد ذلك فما أورده أبوحيان التوحيدي في البصائر والذخائر عن الأصمعي قال: سئل عبيدالله بن عتبة عن الفصاحة، فقال: « دنو المأخذ، وقرع الحجة، وقدح المراد، وقليل من كثير «
إنها الوصول إلى الهدف بأوضح لفظ وأقل لفظ وإن الهدف لجزء منها.
والسؤال المبني على المفهوم الحضاري والفكري للفصاحة: هل انقرضت فصاحة العرب ؟
الجواب أن نعم لقد انقرضت بمفهومها اللغوي الضيق وانقرضت بمفهومها الحضاري والفكري الواسع والمحصلة النهائية أن العرب ليسوا فصحاء وعليهم البحث عن فصاحتهم المفقودة كأول شرط لإنجاز مشروعهم الحضاري بين أمم الأرض، فاللغة هوية وحضارة ووجود قبل أن تكون وسيلة تواصل، واللغة العربية هي لغة تتميز بأنها حاملة لمكون الفصاحة بطبيعتها.