إننا حينما نحصر إشكالية النص بالفهم الديني الإسلامي فإننا سننظر إليها عبر سبيلين: أحدهما انبعث من مرحلة متقدمة في الفكر الإسلامي وهو التأويل وضده ظاهر النص، والآخر ظهر في مرحلة متأخرة وهو المقصد الشرعي أو فلسفة التشريع، ومن خلال هذين السبيلين نشأت الفرق والمذاهب والتيارات الإسلامية عبر التأريخ الإسلامي وبالخصوص طريق التأويل الذي كان محور الاختلاف في مراحل الإسلام المتقدمة بينما المقاصد الشرعية هي طريق الاختلاف في المراحل المعاصرة وإن لم تكن بقوة تأثير مرحلة التأويل التي لم تنقطع حتى الآن عبر النظريات الفكرية والفلسفية المعاصرة التي تتعاطى مع النص المكتوب والكوني.
بدأ إشكال التأويل عند العقلانيين من المعتزلة الذين هم أكثر المذاهب تأويلًا يليهم الأشاعرة وأبعدهم عن التأويل الحنابلة (فيصل التفرقة 45) فأعمل التأويليون العقل في النص، وجعلوا محور فهم النص هو العقل؛ فاضطروا للجوء إلى التأويل ليوافقوا بين النص والعقل، وشاركهم في هذا السبيل الفلاسفة الإسلاميين كابن رشد الذي جعل التأويل مركزًا للتعاطي مع النص، واعتمد على التأويل كمخلص من إشكال التنافر بين الحكمة/الفلسفة والشريعة؛ فجعل البرهان/العقل وسيطًا بينهما ليمارس التأويل حتى يخرج من هذا الإشكال، ووصل بالغزالي أن يصف الذين لا يؤولون بالغباوة (فيصل التفرقة 46)، وبقي الحرفيون النصيون في سجالٍ مع التأويليين حول فهم النص بدرجاتٍ متفاوتة حتى إن الغزالي يرى أنه لا يمكن أن ينفك النص عن التأويل حتى عند من هم أبعد الناس عنه لأنهم لجؤوا إليه عندما احتاجوه في فهم بعض النصوص كما عند أحمد بن حنبل (فيصل التفرقة للغزالي 41)، فتعامَلَ الحرفيوّن مع التأويل كضدية للمعنى الذي ارتضاه الله تعالى من النص، ومن هنا نشأت الفرق والمذاهب والتيارات الإسلامية.
وعندما نشأ علم مقاصد الشريعة أو فلسفة التشريع على يدي الشاطبي فإن النص نحى منحًا آخر تجاه مقاصد التشريع الكلية التي تخدمها النصوص، فأضحى فهم النص مستحضرًا مقاصد الشرع التي ارتضاها للإنسان، فالنص جاء لمصلحة الإنسان والمقاصد هي مصالحه الكبرى المعتمدة على مجموع هاته النصوص الشرعية، و-أيضًا- نشأ السجال بين الحرفيين والمقاصديين في فهم النص كما حصل في مرحلته السابقة مع التأويل، فاتُهم المقاصديون بتمييع الدين والبعد عن النص الشرعي وتعاملوا مع المقاصد بنظرةٍ ثانويةٍ قد تُستجلب في أحايين قليلة وبالخصوص حال الاجتهاد في فهم النص، وكان لنظرية المقاصد الفضل الأكبر على فكر مرحلة النهضة العربية الإصلاحية حينما جاء محمد عبده بكتاب المقاصد من تونس إلى مصر في القرن الثالث عشر الهجري وطُبع في مصر فانتشر الفكر المقاصدي في المشرق العربي وأصبح حاضرًا في التعاطي مع النص، وواكبت حركة المقاصد تجديدًا في المرحلة الآنية لتكون متكأً معاصرًا للتعاطي مع النص الذي بات محاصرًا بالأفكار العالمية الغير خاضعة للتنظير الديني، فاهتم العديد من مجددي المقاصد بالتوفيق بين الكونية والمقاصدية كما فعله طه جابر العلواني في كتابه (مقاصد الشريعة) حينما وافق بين النص الشرعي والتعالق الكوني بدءًا من الإنسان والكون حتى الإله عبر (العمران/للكون) و(التزكية/للإنسان) و(التوحيد/للإله) وسماها المقاصد الشرعية العليا، وجعل لها خصائص تنفرد بها عن المقاصد الشرعية غير العليا، وأيضا ما نقده طه عبدالرحمن على الشاطبي حينما جعل مكارم الأخلاق ضمن التحسينيات التي هي في الدرجة الثالثة من الكليات، واعتبر طه عبدالرحمن الأخلاق ضمن المقاصد الأساسية في الشريعة الإسلامية، وحتى هذا التجديد لم يسلم من رفض المقاصديين أنفسهم لتمسكهم بالإرث المقاصدي الذي سكّه الشاطبي في فترة سابقة. وإن النظر إلى النص بهذين العينين: التأويل والمقاصد لا يعني الانفكاك عن ظاهر النص ومحو النصيّة بالكليّة، لأن النص الديني منه ما هو ظاهر ويسمى عند الأصوليين الظاهر أو النص أو المحكم، ويقابله المتشابه الذي انبنى عليه الخلاف في التأويلية بحسب فهم آية «الراسخون في العلم»، فالذين يرون الاطلاع على تأويل المتشابه يفهمون الآية بالعطف بينما يرون عدم التأويل ورد المعنى إلى الله أولئك الذين يعتقدون استئناف الآية لا عطفها. ومن هنا فإنه حتى يكون النص متعاطيًا للواقع لا بد له منهذين الأمرين: التأويل والمقاصد ليتسنى لعقل الإنسان أن يعمل باستحضار النص في هذا الزمن الذي تطور فيه كل شيء؛ حتى آلات الفهم لم تنفك عن التطور، فالنص ثابت لكن الفهم متطور، وإذا كان الفهم تراكميًا وخاضعًا للمعرفة الإنسانية فإنه ولا بد بحاجةٍ إلى التأويل والمقاصد ليوافق بين معرفة الإنسان التي لا تنقطع وبين النص الثابت المسطور، فالنص ثابت مسطور لكن العقل متطور متحول؛ ولهذا فإن ثوابت الشريعة قليلة مقارنة بمساحة الاختلاف فيها حتى يترك الشارع بحبوحة لعقل الإنسان كي يدرك مصالحه في الأزمان المتغيرة والمتطورة.
ولقد مرّ النص بمناهج وأصول وأفهام عديدة عبر التأريخ العربي الإسلامي، تنازع فيه العلماء والفلاسفة منذ الغزالي الذي يؤمن بالتأويل بِقَدَر وتخوف؛ وابن رشد الذي يعتمد على التأويل بلا رهبة ويعتبره حقّاً لأهل البرهان العلماء؛ وابن تيمية الذي يقدم ظاهر النص على تأويله ويحصر التأويل في نطاق ضيق وبشروط ضيقة، حتى الشاطبي الذي يعتمد على كليات الشريعة في فهم النص مع أنه يعتمد في هذه الكليات على النص ذاته ويستمدها منه مباشرة بالاعتماد على علم الأصول.
إن رحلة فهم النص في تأريخنا العربي الإسلامي بحاجة إلى إعادة طرح وتحليل، واستحضار لكل العلائق التي أثرت في فهمه؛ سواءً أكانت عقلانية فلسفية أم كانت رهبانية من النص وتخوف من الدخول معه في سجال ثقافي حواري يعتمد على التطور المعرفي الآني للإنسان.