إذا كانت اللغة قراءة وكتابة وتحدثا واستماعا, فإنّ هذه الأسطر محاولة استماع, إنصاتُ حدسٍ فقط, يحاول فهم دلالات كلمة (البعيد) في ديوان (مطمئنًّا على الحافة) للشاعر علي الحازمي.
وثنائية القرب والبعد جزء من ظاهرة تلازم الثنائيات في شعره, منذ عتبة العنوان: (السكينة/القلق) (الاستقرار/الإقصاء) (مطمئنا/على الحافة), وتتكرر كلمة (البعيد) في هذا الديوان بإضافاتها المختلفة, أكثر من ثلاثين مرة في أقل من مئة صفحة, فالبُعد عنده قيثارةٌ ترشح أنغاما جديرة بالإنصات؛ لتمييز مقاماتها وسياقاتها, التي منها:
- البعيد, بين التعريف والتنكير:
الماضي يعرفهُ فيعرِّفهُ, معرفا بأل؛ لأنه معروفٌ بالآل والمتاهة والمضيّ المرغم, يقول:
اخترتَ أن تحيا حياتك كالغريبِ
يمرُّ من باب المدينة غير مأسوفٍ
على الماضي البعيد وناسِهِ
لأيّ دربٍ تُفسح الدنيا لخطوته.. سلَكْ
الماضي هو النائي الذي يزداد بعدا مع الأيام, ولو كان بعيدا أمامه لحثَّ السير إليه, ولكن خط الزمن مسارٌ واحد بلا عودة, الماضي وراء, فالمسافة تطول بينهما كل يوم.
أما الغياب فمختلف عن الماضي, يجهله فينكّره, يجهل مداه وحدوده واتجاهه, الغيابُ ظرفُ مكانٍ بعيدٍ, ولا يعرف أكثر من ذلك, يقول:
خذني بعيداً للغياب... أعود منهُ
قصائداً سوداء تندب حظَّها
هذا زمانٌ لا يعودُ إلى التماعِهِ مرّتين,
- بعيدك:
الشاعر يعرّف البعيد بالإضافة إلى عدد من الضمائر, فتأتي الكاف (بعيدك), بصوتٍ داخليٍّ يتفرّد في أدائه الشاعر, حيث يوكّل هذا الصوت (الضمير, أو الأنا العليا, أو اللاوعي) يوكّله محامياً عن الطرفين معاً: الرجل والمرأة في النص, وأقول: تفردٌ؛ لأن نزار قباني -على سبيل المثال- تقمّص دور المرأة, فيما أغلب الشعراء يتحدثون عن أنفسهم, هذا الصوت يتحدث عنها (هي), محتفظا بهويةٍ منفصلةٍ لطرفٍ آخرَ غيرهما, يسرد تفاصيل القضية من أعماق موكّلته, يقرأ على سمعه (هو) وقائع الماضي ووقعه عليها, يتجرّد في غوصٍ عميق يدّعي فيه عدم الانحياز, لكنّه -في رأيي- قسا كثيرا, أنّبه وألَّب المتلقي عليه, وألبسه -وحده- جريرة ذاك البُعد:
وأنت منحازٌ إلى رؤيا بعيدكَ
كان يسهُلُ أن تعود إلى صداك
لم تختلق سببا مجازيا يحنُّ له شراعُك
كلما أبحرتَ في شال الغياب وطيفِهِ
صوت أقرب للتشفي منه للنصح, وهو يعيد حيثيات ما قبل البعيد وما بعده:
من كنت تنوي أن تواصل صوب نجمته الصعود
قسا عليك.. وأنزلَكْ
والصوت المحقق نفسه, يقول في قصيدة أخرى مترعةٍ بالتحريض على الندم:
ولم تلتفت كي تلوّح ثانيةً
للصدى في بعيدك
ها أنت وحدك دون اختيار
تلوذ بجفنك للنوم محتشدا بالفراغ!
وفيها يكرّر: ولم تنتبه, ولم تنتبه.. فنجح في إقناع المتلقي بمسؤولية الطرف (هو) التامة عن هلاك القريب.
- بعيدها:
رموزها الغامرة, وصورتها الغائرة في أعماق أحلامٍ أخّاذةٍ, غير أنها لا تتحقق:
لم تستطع عيش الحياةِ
على حطامِ كواكبٍ
غرَبتْ عن الأنظار
أغرتكَ التخومُ بشالِها وبعيدِها
أما حين يخاطبها فننصت للبعيد, في أعذب هديله, في بهاء طبقاته المنفردة, وزيادة في الشجن (صوتُهُ دليله) كان يسير خلف صوته, يسوقه شعره إليها, يقول في قصيدة (دلني صوتي عليك):
سفرُ الحمام إلى غيابك
لم يكن يكفي لترميم المسافة بيننا
يكفي لألمس في بعيدك صورتي
شفقاً بهيجاً للتأمل في فراغ الكونِ من عينيك
- بعيدُهُ:
تجد في الديوان: شجري البعيد, سعفي البعيد, وبعيدها وبعيدك وبعيدنا, لكنك لن تجد (بعيدي), فهو لا يملكه, لا يعرفه كله, لا يخصّه وحده:
ليلى تفتّش في تخوم الوقتِ
عن ماضٍ لسيرةِ عمرها
وأنا أفتّش عن صباحٍ شاردٍ للحلم
يأخذني إلى سعفي البعيد
سعف , جذور, أصول, أشجار, ما استصلحه من ذاك القفر المجهول البعيد, أما المساحات الشاسعة الباقية فلا سلطان له عليها.
- بعيدنا:
بالضمير الجمعيّ, في قصيدة واحدة, دائرة واحدة, محورها التذكّر حين كانا في المركز معاً, وهما بعدما (مرّ الزمان) في نقطتين متباعدتين على حافة الدائرة, وهنا -كما تنصّ الرياضيات- تصبح المسافة متساويةً بين كل نقاط الحافة والمركز, فلا عجب أن يكون (بعيدا)جماعيا:
مرَّ الزمانُ
ولم نعد نقوى على ردمِ المسافةِ
بين هاويتين,
يخذلنا الوقوفُ
على حوافِّ بعيدِنا
وفي نشوة حلم جميل يقول (لن نبتعد) ويؤكدها, نفي البعيد عن المستقبل, لكن, في الحلم فقط:
لن نبتعد...
إن طوّحتنا الأرض في ريش التغرّبِ
وانتثرنا على احتمالات الهديلِ
فليس من شأن المسافة
أن تفكر في استعادة خطونا
والحلمُ شارعنا الوحيد!
- البعيدة:
هي الدلالات المطلقة, حتى أنها برزت وحدها عنوانَ قصيدةٍ هناك, على حافّة الديوان, البعيد كلّه مقصور, وهي المقصور عليه, فيقول في قصيدة (أنتِ البعيدة):
في انتظارِكِ حين تجيئين سِربُ حياةٍ
وتوقٌ يبلّلُ منقارهُ بالسؤال عليكِ
..
كثيرا يحبُّكِ هذا الندى
فاسأليهِ عن الزهرِ, عن شغف النخلِ
عن سدرةٍ لا تلاطف أغصانها
في غيابِ يديكِ...
وأنتِ البعيدة!
الشاعر يستعذبُ البُعد, في لغةٍ تتعالى بناءً وإباء, في شعرٍ متعدّد الأبعاد, متماسك رغم المسافة البعيدة بين طرفي الجملة, يتباعد المبتدأ عن الخبر, ويطول تشبث الفعل وفاعله بالمتممات, في بُنْيَةٍ تربك الإعراب, وتظلّلُ التبيين, لكنّها الشعريّة الحقيقية التي تؤنّق المعنى وتوثّق الدهشة..
وبَعدُ, فكلُّ ما سبق (تحديثٌ وترقيةٌ) للمشكلة القديمة: (كلُّ بعيدِ الهمِّ فيها معذّبُ), ليس إلا!