من الطبيعي في نظري أن يتحوّل التاريخيون وغيرهم من بعض العلماء والأدباء والأطباء والخطباء والكتّاب والضباط والجنود والمهندسين والفلاحين والحرفيين والفنانين ورجال السياسة والقانون والتعليم والاقتصاد، وغيرهم من الناس.. من الطبيعي أن يتحوّل الجميع في بعض الظروف والأحوال إلى متفلسفين يتأملون التاريخ مؤقتاً، وذلك إذا نزلتْ النكبات وحلّتْ الكوارث بمجتمعهم أو بالمجتمعات القريبة منهم مثلاً.. فهل كل هؤلاء فلاسفة تاريخ؟
الإجابة بالطبع هي (لا) غالبًا، ففي أوقات التدهور والسقوط والفوضى والاضطرابات والانحطاط والأخطار والفتن والقلاقل، تبرز الرؤى الإنسانية الفلسفية وتكثر من الجميع، وتزدهر أسواق التفلسف وربط الحاضر بالماضي حتى عند البسطاء وعامة الناس.. والتفسير في نظري أن الإنسان حين يقلق ويشعر بالخوف والخطر على أمنه واستقرار أسرته وأمواله مثلاً، يبدأ في تقصّي الأسباب التي أدّتْ إلى نشوء تلك الأضرار والأخطار، ويجتهد في الإسهام برأيه والإدلاء بدلوه في استعراض ما يعرف من قصص وحكايات التاريخ السابقة، التي أدّتْ إلى أحداث مماثلة أو قريبة لما يحصل في مجتمعه أو دولته، ويبذل كلَّ ما بوسعه للحدس والتخمين أيضًا -وفق معلوماته مهما قلّتْ- في الحال الذي ستنتهي إليها الأزمة في وطنه. ولكن كل ذلك مؤقت. نعم؛ إن كل ما يقوم به هؤلاء لا يدوم، بل هو تفلسف وتفكير عميق قصير النفس، إذ إنه يزول بزوال الظروف والأسباب والنوازل التي أدّت إليه، ولا يلبثون بعد تغيّر الأحوال إلا ويعودون إلى قديم عهدهم وأعمالهم وحياتهم، وتعود مع ذلك -غالبًا- نظرتهم للتاريخ باعتباره ركامًا من القصص والحكايات والوقائع والأساطير والمبالغات والحوادث الغريبة التي لا تعنيهم كثيرًا.
ومن هنا يظهر الفرق الجوهري بينهم وبين فلاسفة التاريخ الحقيقيين، الذين يرتبطون بالتاريخ ارتباطاً دائمًا قويًا؛ لأنهم ينظرون للتاريخ بأنه (الخليل الأعظم للحكمة) كما يقول ديفيد هيوم في جملته الشهيرة.. إذن: ارتباط الفلسفة بالتاريخ قديم بدأ في العصور والحضارات القديمة، وما زال مستمرًا حتى اليوم، ولن يتوقف أبداً ما دامت الحياة على هذه الأرض؛ ولذلك أعتقد شخصياً أنه كلما زاد عدد الفلاسفة عامة، وعدد فلاسفة التاريخ المتمكنين من تأمله خاصة، في مجتمعٍ ما، زاد مع زيادتهم نهوض ذلك المجتمع وأمنه واستقراره، وزادتْ احتماليات تقدمه ورقيّه في مستقبليه البعيد والقريب.
ليس هذا فحسب، فعلاقة الفلاسفة بالتاريخ ليست وثيقة ومستمرة من أجل استشراف مستقبل أوطانهم والتعرّف على القوانين العامة فقط. لا، فقد تجاوزت اهتمامات كثير منهم ذلك الحد أو تلك الغايات المعروفة، فعملوا لما هو أكبر وأجل من ذلك، وأظن الفيلسوف البريطاني روبن كولنغوود أظهر لنا بدقة وقوة وروعة العبارة شيئاً مما أريد قولَه، من خلال سيرته الذاتية التي وردَ فيها قولُه: «إني أبتغي بجمعي بين التاريخ والفلسفة أن أخرج بدراسة تكفل الوسيلة لحل كل مشكلات الإنسانية».
ومن المهم عندي التركيز على الملامح العامة للفكر الفلسفي التاريخي المتأخر، لأنه ببساطة أقرب لما أطمح أن أصل إليه من العصور الغابرة التي كانت ظروفها من جميع النواحي مختلفة تمامًا عن حياتنا، ولذلك اجتهدتُ في تأمل هذا الفكر من بداية القرن العشرين وحتى الآن، فخرجتُ بملمحين عامين واضحين، اشتركتْ في تكرارهما -بصيغ عدّة- مراجع عدّة، وقد يدخل فيهما أيضًا فلاسفة تاريخ سابقون، أي أنهما مرتبطان بمرحلتنا وبعصرنا وما سبقه بقليل؛ ولكنهما قد يشملان أيضًا بعض الاتجاهات القديمة في الفكر الفلسفي التاريخي..
الملمح الأول هو التصميم على الهروب من الحاضر المرِّ وإشكالاته الضخمة، عن طريق استشراف المستقبل والتنبؤ بما ستؤول إليه الأحوال، فالمستقبل هو الهدف منذ (الحرب العالمية الأولى) وما بعدها، فقد كثرت -مثلاً- التساؤلات عن جدوى هذا التقدم العلمي والثورات التقنية، إذا كان الإنسان يفقد مع هذا التقدم أمنه وسعادته واستقراره؟!
والثاني هو ارتفاع الحماس كلما زادت الإخفاقات والأخطار والإحباطات والانحطاطات، وفي هذا يقول هيجل: «بومة مينرفا لا تطير إلا عندما يحل الظلام». ومقصد هيجل رمزي تشبيهي هنا، فهو يريد أن يرمز بهذه الآلهة الرومانية إلى الحكمة، فالحكمة أيضًا تظهر وتبين غالبًا في الظروف الصعبة والأحوال الشديدة، بشكل أكثر وضوحًا من ظهورها في أوقات الدعة والرخاء والاستقرار.
وأنقلُ دفة الحديث إلى مجالسنا العامة - ألسنا نقول في تلك المجالس، وبخاصة المجالس الحوارية ذات الطابع الديالكتيكي والصبغة الثقافية الجدلية؛ ألسنا نقول فيها دائمًا: تعلمنا من التاريخ كذا وكذا؟ أليس الواحد منا يردد أثناء اشتداد المحاورات -وبشكل عفوي- جُمَلاً من قبيل: اقرأ التاريخ لتعرف كذا وكذا..؟!
إن ما نقوم به في تلك اللقاءات والجلسات له علاقة بفلسفة التاريخ. إنه ببساطة: شكل مبسط أو مصغر من أشكال تلك الفلسفة، فلو تأملنا كلام من يقول: تعلمنا من التاريخ كذا وكذا، سنجد أنه سيورد نقاطاً عامة أو خلاصات شمولية، تعبّر عن فلسفته التاريخية أو فلسفة من قرأ له أو تأثر به أو تعلّم منه، بأية صورة من صور التعلّم.
وكذلك الحال مع من يقول: اقرأ التاريخ لتعرف كذا وكذا.. فهو في النهاية يطلبُ تأمل التاريخ لمعرفة القوانين والعوامل العامة الكبرى المؤثرة بقوة في مسيرة تاريخ بني الإنسان، وهي التي تكررت في قصص التاريخ المختلفة، كقصص قيام الحروب أو أخبار سقوط الدول...الخ.
ومن أجمل ما قرأتُ في استخدام الجملة السابقة، جملة (تعلمنا من التاريخ) قول هيجل: نتعلم من التاريخ أننا لا نتعلم من التاريخ. وأختم بناحية الكم الكتابي والكيف، فالتاريخيون يكتبون ويتكلمون كثيرًا، لأنهم رواة حكايات الأزمان السابقة، فنرى نتاجهم على رفوف المكتبات بمجلدات ضخمة وكثيرة. وجهدهم مشكور فلولاهم لضاع التاريخ.
وعلى العكس -في تقييمي- يأتي فلاسفة التاريخ، فكتاباتهم أقل كما هو مشاهد؛ لأنهم يهتمون بالكيف أكثر من الكم، فشغلهم كله يدور في فلك تطلعهم الأهم، وهو صياغة تاريخ البشرية وحضاراتها من بدايته صياغة جديدة، تتجاوز التغلغل في الصغائر والإسهاب في الجزئيات والتقييدين الزماني والمكاني، وتدرس تلك الحضارات وما فيها من عناصر ثقافية بارزة جلية المعالم دراسة تأملية عامة، مرادها الإحاطة بتاريخ الإنسان إحاطة تتنبأ بمستقبله من ناحية، وتسعى لتوجيهه نحو المستقبل الأفضل المأمول من ناحية ثانية.
إن فيلسوف التاريخ يشبه إلى حد كبير الإنسان الذي يضع اللبن الرائب في وعاء خاص، ليقوم بخضّه خضًا قويّاً يجعل زبدته تطفو على السطح، فيقوم بعد ذلك بأخذ زبدة ذلك اللبن. وسنتعمق في المقالة القادمة في صلب عنوان موضوعنا بشكل أكبر، حيث سأتناول من جهة الربط الميتافيزيقي للأحداث التاريخية بالسماء، أو بتدبير الخالق، باختلاف صور الإيمان به.. ومن جهة ثانية: سأتناول حرية الإرادة، ومسؤولية كلِّ إنسان عن أفعاله، وبالتالي مسؤوليته عن دوره في صناعة تاريخ البشرية.