قلتُ لها مشاغباً: عاشقةٌ أنتِ أيتها الغين الجميلة، وكنتُ سمعتها على غفلةٍ تغني هذه الأبيات العذبة لمهيار الديلمي:
أستنجدُ الصبرَ فيكم وهو مغلوبُ
وأسألُ النومَ عنكم وهو مسلوبُ
وأَبتغي عندكم قلباً سَمَحْتُ به
وكيف يَرْجِعُ شيءٌ وهو موهوبُ
فابتسمت خجلة وقالت: لا ذنب في الحب لو فعلت، ولكن مشكلتكم أنكم عجلون في حياتكم وفي طعامكم وفي أحكامكم هذه الأيام. صحيح أنها قصيدة غزلية، ولكنه الحزن يمطرني بالشعر والغناء، وأنا أغنيها كلما تلفّتُّ فرأيتُ أحوال الناس التي لا تسرّ، وغربتهم في أوطانهم التي لا تثبت على حال منذ عقود، وهم يحبونها، ولكنهم وهُم عطشى، لا يستطيعون جمعها أو الإمساك بها؛ فهي تتسرب كالماء من بين أصابعهم، فيما أمواج الحياة المتلاطمة بتقلباتها تغمرهم، وتغمر بيوتهم الطينية البسيطة، وتجرف أحلامهم، فما ابتنوا غرفةً أو عريشةً تؤويهم، ولا اغترفوا غرفةً تروي عطشهم!!
قلتُ لها: المعذرة يا سيدتي، فأنا - وغيري كثير - لم نعد نطيق السياسة، ولا أخبارها، مذ زاغت أبصار الساسة والمحللين، ودخلت قنوات الفتنة والتحريض بيوتنا. ونحن لم نعد نفهم مما نرى ونسمع شيئاً، نحن نفهم شيئاً وحيداً: أن أغبياء السياسة والأحزاب، التي لا أغلبية لها في الحقيقة، ومنظري وإعلاميي الغفلة، وعلماء الزيف والغواية والتحريض والفتن، حوّلوا كثيراً من الأوطان والناس إلى أرضٍ جاذبة لمغامرات الفتية الفارغين، ولغزو العدو الغريب، وللمغالطات والتدخلات والضغوط الغربية، وللتقسيم، وللفوضى، فتهاوت، وغرّب أهلها، وحل بعد النظام والأمن ما ترين اليوم من غيابٍ كاملٍ لهما. بمعنى آخر، لقد فُرّغت الدول من مضمونها وأهلها، وأصبحت مراعي خصبةً لحكم العصابات والطوائف والقبائل والأحزاب المشبوهة، ومن لا دين لهم إلا المصلحة الخاصة المربوطة بمصالح الغرب، وأمن إسرائيل، وأرى أن كل ما يحدث هو إشاعة للفوضى، وإثارة للنعرات، وإعادة واضحة متعمدة للجاهلية الأولى عبر تشويه الإسلام وضرب مذاهبه وطوائفه ضمن سياسة (فرّق تسد) القديمة الجديدة. فنحن لا نرى ربيعاً، بل خريفاً وقطعاناً من الغوغاء والمفسدين وقطّاع الطرق، وحتى لو كانت هناك رغبات صادقة في البدء في التغيير، فقد زورت وصودرت الرغبات، وسُرق وحوّل اتجاه التغيير.
لقد انتهت تماماً دول كنا نعرفها ونعرف أرضها وحدودها ونخلها وماءها، وحل مكانها اليوم الوهم والزيف والسراب والقتل والغل والبغضاء.
انظري يا غاليتي من يتحكم بخريطتنا اليوم: أمريكا وإسرائيل وتركيا وإيران والأكراد، الذين أصبح لهم وجود أفضل من وجودنا، بفضلنا طبعاً!!
لقد عاد الروم والفرس ويهود خيبر للخارطة.
قالت: أنت تقول ما لا يقول غيرك، وهذا ليس رأي الأغلبية، هم يقولون هنالك ربيع، وهنالك تغيير!!
قلتُ لها: الأغلبية غالبةٌ بالجهل وبالجذب والاستقطاب، بينما الوعي والعقل مغيبان عمداً، ولا نرى منابر اليوم في الغالب إلا للفحيح والسموم.
ثم نظرتُ في عينيها الغائمتين المغرورقتين، وقلتُ لها أوَ تتذكرين أبا الطيب وشعب بوان؟!
قالت وهي تغالبُ دمعها: وكيف لا؟!
ثمّ أنشدت، ورددت معها الطيور على أغصانها العالية:
مَغَاني الشِّعْبِ طِيباً في المَغَاني
بمَنْزِلَةِ الرّبيعِ منَ الزّمَانِ
وَلَكِنّ الفَتى العَرَبيّ فِيهَا
غريبُ الوجهِ واليدِ واللسانِ
قلت لها: أحسنتِ يا سيدتي، كيف لو عاش، هذا الغريب كصالحٍ في ثمود، بيننا اليوم؟! ترى ما يقول لنا، وفي وصف غربتنا وغربة أوطاننا؟!
ثمّ سألتها عن غزة وحرب غزة، وعن فلسطين وقدسها، وهل تقع في أراضينا، أم أنها تقع خارج الغلاف الجوي، وهل هي حقيقة، أم أنها خرافة كالغول والعنقاء!!
فابتسمت وقالت: أتسخر مني يا محمد أنْ وهبك الله البيان؟!
قلت: معاذ الله يا غيداء الحروف، لكنني بهذه الطريقة أتحايلُ على ضغطي كلما ارتفع.
فأخذتني بيدي، وقالت: لقد لقينا من حديثنا هذا نصَبا؛ تعال اجلس بقربي هنا وغنّ لي شعراً يطرب. فقلت لها: سمعاً وطاعةً، هذا غصنٌ من شجرة الشريف الرضي بأوراقه وثمرِه لك:
يا ظَبيَةَ البانِ تَرعى في خَمائِلِهِ
لِيَهنَكِ اليَومَ أَنَّ القَلبَ مَرعاكِ
الماءُ عِندَكِ مَبذولٌ لِشارِبِه
وَلَيسَ يُرويكِ إِلّا مَدمَعي الباكي
هَبَّت لَنا مِن رِياحِ الغَورِ رائِحَةٌ
بَعدَ الرُقادِ عَرَفناها بِرَيّاكِ
قالت: ما أرقّ وأعذب شعره، زدنا من الجمال فقد قتلنا القبح:
سقى منى وليالي الخِيفِ ما شربتْ
من الغمامِ وحيّاها وحيّاكِ
إذْ يَلتَقي كُلُّ ذي دَيْنٍ وَماطِلهُ
منا ويجتمعُ المشكوّ والشاكي
لمّا غَدا السّرْبُ يَعطُو بَينَ أرْحُلِنَا
مَا كانَ فيهِ غَرِيمُ القَلبِ إلاّكِ
فزال الحزنُ عن عينيها، وقالت: أغدق عليّ أغدق..
فقلت لها: هو شاعرٌ عباسيٌّ متفرد رقيقٌ عميقٌ، لا يتذكره الناسُ كثيراً، وله:
رماني كالعدوِّ يريدُ قتلي
فغالطني وقال أنا الحبيبُ
وأنكرني فعرّفني إليه
لظى الأنفاسِ والنظرُ المريبُ
وقالوا لِم أطعتَ، وكيف أعصي
أميراً من رعيّتهِ القلوبُ؟!