يتناقل السعوديون منذ سنوات مشاهد الحالات المطرية القليلة في مناطق مختلفة من البلاد، التي تتحول بعدها السيول إلى أوضاع كارثية للناس؛ سواء بهدم بيوتهم أو إتلاف ممتلكاتهم، أو بإعاقتهم في الطرق، حيث يرتفع منسوب المياه إلى درجات عالية، بل وفي بعض الحالات بوفيات يتعرض لها الناس، كما حدث في مدينة جدة وبعض المناطق الأخرى في السنوات الأخيرة.
ومثلما يحدث أمامي هذه الأيام، فإنَّ كثيراً من الناس قد سافروا إلى مناطق أخرى من العالم، وشاهدوا أمطاراً تهطل على مدن عديدة لساعات طويلة في الليل والنهار. ثم يلتفت الناس من حولهم في الشوارع، فلا يرون إلا آثار مياه على الشارع لا تبلل حتى الأقدام. ولا تمضي ساعة من الزمان حتى تصبح الشوارع خالية من آثارها كما كانت قبل هطول تلك الأمطار الشديدة. وأنا على ثقة بأن غيري قد تساءل مثلما تساءلت: هل أمطارهم تختلف عن أمطارنا أو شوارعهم تختلف عن شوارعنا، أم نحن الذين نختلف عنهم؟
أمضيت في حافلة انتقلت بواسطتها من مدينة إلى أخرى في جبال الأنديز العالية في أمريكا الجنوبية أربع ساعات، ولم تتوقف أمطار شديدة عن الهطول. وكنا كلما وصلنا قرية بين تلك المدينتين، أرى مجاري تلك الأمطار المنحدرة من المرتفعات تستقبل تلك الشلالات الصَّغيرة، فتجري في مساربها من تحت القرية، ولا تحدث أثراً لأولئك السكان الذين يمارسون حياتهم بصورة طبيعية قبل الأمطار وبعدها. وعجباً أن يتعجب أحد مثلي من أمور لا يراها أولئك الناس، ولا آخرون غيرهم في آسيا أو أوروبا أو غيرهما عجباً. لكن تذكّر كوارثنا من أمطار أقل من هذه بكثير، وفي ارتفاعات أدنى من مرتفعات الأنديز بمراحل يجعلني أندهش، بل وأصر على أن هناك أمراً غير مفهوم في حياتنا وعلاقتنا بالأمطار والظواهر الطبيعية، بالرغم من أن العرب كانوا من أقدر الأمم على التفاعل مع تلك الظواهر، وأكثرها دراية بالأنواء وعلاقتها بالأوضاع على الأرض.
عندئذ لم أجد مخرجاً لوصف حالنا مع تلك الأمطار، التي تكون أحياناً متوسطة أو أقل من المتوسطة، وتحدث كل تلك الآثار الكارثية، إلا أننا لا نحسن احترام الطبيعة؛ فمن غير المعقول أن تتمدد مدننا وبعض ما يسمى «الأحياء العشوائية»، لتسد الأودية ومجاري السيول الطبيعية التي تكونت على مدى أزمنة طويلة، ثم لا نتوقع أن تبحث تلك المياه المتجمعة عن ممرات أخرى، أو تجرف معها بعض البيوت أو تغرقها، أو تتجمع في بحيرات في الشوارع إذا كانت غير قادمة بقوة من مرتفعات محيطة.
سألت مرة أحد المتخصصين في مصادر المياه عن واقعنا المزدوج: صحراء تعاني من شح المياه الجارية والجوفية والأمطار، ثم تشتكي مدنها وقراها وبعض منخفضاتها من أخطار مياه مهولة. كيف لم يمكن الاستفادة منها، ونحن من البلدان القلائل التي تسعى إلى الحصول على مياه الشرب من تحلية مياه البحر؟ فصدمني بإجابة أكثر مرارة من الواقع، حيث لا توجد دراسات عن مستويات الأمطار في أي منطقة من مناطق المملكة، ولا السيول المتوقع حصولها في أعوام متتالية، لتقام مشروعات في المناطق التي قد تكون أكثر وفرة من تلك المياه الطارئة الوفيرة.
وبعد ذلك، وقالها بحسرة، هل تظن أن التفكير الاستراتيجي متحرك في أذهان أجهزتنا البيروقراطية، ليخرجوا عن النمط التقليدي في أي تخطيط تُعتمد له ميزانيات؟ ما عهدوه منذ أيَّام تاريخ اليمن القديم، والأمم القديمة وبداية العصر الحديث، أن السدود هي الوسيلة الوحيدة لحفظ المياه؛ أما الابتكارات فهي ليست شأنا يخصنا.. ثم انصرف إلى قهوته!