عاد من قضاء العمرة عمّ أم أوس الأستاذ عبداللطيف محمد المنصور - رحمه الله - وهو المستشار الصحي بسفارة الكويت في القاهرة، فلَمّا زرناه حدثنا حديثًا طويلًا عن شخصية عظيمة، عالِم زويت له مكارم الأخلاق واللطف والورع وحسن المعاملة وتهلل الأسارير والأريحية التي يستقبل بها من يعرف ومن لا يعرف. وكان الأستاذ يظن أني أعرف الدكتور عبدالرحمن العثيمين، فنفيت معرفتي به، وذكرت أنّ الذي أعرفه هو أستاذنا عبدالله العثيمين - أطال الله بقاءه بالصحة والرضا - ولم أكن من المشتغلين بالتحقيق، وكنت منصرفًا لكتابة رسالتَيْ الماجستير والدكتوراه في جامعة القاهرة. وعلى الرغم من أني زرت منزل الشيخ المحقق محمود شاكر غير مرّة لم يصادف أن جرى ذكره، ولكني بعد العودة ومزاولتي التدريس في قسم اللغة العربية اطلعت على طائفة من كتبه المحققة التي انتفعت بها كثيرًا، واتصلت أخباره التي زادت منزلته في نفسي، وكان مقامه في مكة ومقامي في الرياض من صوارف اللقاء به، والتشرف بمحضره، والاستماع إلى أحاديثه الثرية.
كانت المرة الأولى التي أتشرف بلقائه يوم جاء إلى الرياض ليشارك في الندوة الأدبية التي نظمها نادي الرياض الأدبي مساء يوم الثلاثاء 13/ 7/ 1421هـ عن حمد الجاسر وجهوده العلمية، وكان يشارك فيها أ. د. أسعد عبده عضو مجلس الشورى، وأ. د. عبدالله العسيلان الأستاذ بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالمدينة، وكان ثالثهم د. عبدالرحمن العثيمين الأستاذ بجامعة أم القرى. كانت مشاركته من أهم حوافز شهادتي تلك الندوة. تقدمت إليه للسلام فنهض إلي نهوض عارف ليستقبلني، وبادلني السلام سلام من تعارفا منذ أمد طويل. فرحت فرحًا شديدًا بما لقيته منه من حفاوة وترحيب، ومضت السنوات لا لقاء ولا اتصال. وكان آخر ما وصلني من أخباره أنه عاد إلى عنيزة، وأنه يجلس لاستقبال أحبابه؛ فعزمت على أن أشهد مجلسه، ولكن الظروف لم توات لهذا، حتى جاء أوان اللقاء الثاني.
دعاني الأستاذ الفاضل صالح الغذامي أخو أستاذنا الدكتور عبدالله الغذامي للمشاركة في ندوة بعنوان (شبابنا واللغة العربية) يوم الأربعاء الموافق 25/ 12/ 1434هـ، في مركز ابن صالح الاجتماعي بعنيزة. وأغراني الأستاذ صالح للمشاركة بذكر من سأتشرف بصحبتهم، وهما أستاذنا أ.د. محمد الهدلق، والدكتور الرائع عبدالله الوشمي. في تلك الليلة ونحن على المنصة نهمّ بالبدء في الحديث نفاجأ بالدكتور عبدالرحمن العثيمين يأخذ مكانه في الصف الأمامي أمامنا على كرسيه المتحرك يتحامل على نفسه. جاء ليكرمنا بحضوره، ويشرفنا بمقدمه. نهضت من مكاني، ونزلت إليه لأقبّل رأسه، وأسلم عليه، وأشكره من أعماق قلبي على أن أكرمنا هذا الإكرام، وخصنا بشهادته ندوتنا. هذا هو اللقاء الثاني.
وجاء يوم حدثني أخي أ. د. محمد خير البقاعي بأني في لجنة شكَّلتها وزارة الثقافة لتنظيم احتفال الوزارة باليوم العالمي للغة العربية. وكان من نتائج اجتماع هذه اللجنة أن تُكرّم شخصية علميّة لها جهود بارزة في خدمة اللغة العربية تعليمًا وتأليفًا، فوفقني الله إلى اقتراح اسم أستاذنا د. عبدالرحمن العثيمين. وكان من مقتضيات هذا أن تُعد أوراق عمل تتحدث عنه؛ فرأيت أن أتصل بأخي الدكتور فريد الزامل رئيس قسم اللغة العربية في جامعة القصيم؛ لأسأله عن أستاذنا، ولأرجوه أن يشاركنا في تكريمه بالكتابة، وفاجأني بقوله إنه في طريقه لزيارة أستاذنا حيث يرقد في المستشفى فاقد النطق؛ فدعوت الله بأن يمُنَّ عليه بالشفاء، وأن يمكنه من شهادة تكريمه الذي لن أشهده أنا لارتباطي بالمشاركة بندوة تعقدها جامعتي مولانا إبراهيم في دار السلام بإندونيسيا، ولكن في رحلة العودة في مطار جاكرتا نقل لي أخي الدكتور مساعد الغفيلي نبأ وفاة أستاذنا عبدالرحمن العثيمين.
ليست المحبة والتقدير بعدد مرّات اللقاء؛ ولكن بما تنطوي عليه النفوس. لقد نزلت محبته في نفسي منزلها منذ سمعت خبره أول مرة، وما زالت تتعمق مع الأيام، ولن تفارق ذهني تلك اللحظات التي رأيته فيها في هاتين المرتين.
رحم الله أستاذنا رحمة واسعة، وأجزل له الثواب.