(1)
الأصلُ فيما أذهب إليه، في علّة تأثير الخطاب الديني - السياسي، إنّما يرجع إلى أصلٍ في الأنظمة السياسيّة العربيّة التي لم تعالج ثغرات في الدستور والتشريع، إِذْ يُفضي وجود هذه الثغرات والعديد من المواد الدستورية ذات المرجعيّة الدينيّة إلى تأييد الجمع بين الديني والسياسي، وهذا الجمعُ يفتح الباب أمام مفاضلة مع المعارضة الدينيّة - السياسيّة وبين السلطة كممثّل للنظام ومرجعيّته الدستوريّة: أيّهما أقرب للمعلوم الديني المتداول على أنّه صوابٌ لا يقبل التفريط والمهادنة تبعاً لكلّ مذهب وقوّته داخل كلّ نظام: (أيهما أكثر تمثيلا: الخطاب الديني أم خطاب الدولة؟) لطالما أنّ كلاهما يرجعان إلى المرجع عينه في الدستور والتشريع، كما أنّ كلاهما أمام الناس لا يفصلان بين الدين والدولة؛ فالعلّةُ محلُّها الدستورُ وما يمثّله بالقوّة على أرض الواقع، وليست العلّة كاملة في الخطاب الديني على الرغم من مغالطات الخطاب الديني - السياسي، وذلك: (1) لأنّ الأصل في الدستورِ أنّه للكُلِّ، بينما الخطاب الديني - السياسي للجُزءِ، (2) ولأنّ الدستورَ هو الأصلُ والخطابات السياسيّة أيّا كانت إنّما هي فروع تعمل فوق السطح بالاستناد إلى ما يقدّمه هذا الدستور من صيانة وحماية وتنظيم لها، (3) ولأنّ الدستورَ أساسٌ ومرجعٌ بينما الخطاباتُ بناءٌ واستنادٌ؛ وهذا الابتداءُ في وضع الإصلاح في مكانه الأقوى (مرجع الكلّ) مدخل في نقد أوهام إصلاح الجزء بحجّة قدرته على إصلاح الكل، وهو وهمٌ أظهرت الوقائع فساده لطالما الأساس والمرجع يحتاجان إلى إصلاح، فالمنفعة الواقعيّة تبدأ فيما له سلطان الأساس وما يُبنى عليه وما كان للكل، وهو ما يجعل الدعوة إلى إصلاح تشريعيّ هو الابتداءُ الضروري لإصلاحات تبعات ما تفرّع من الأصل الكل من خطابات وفروع تستند جميعها في تطرّفها وإقصائيّتها وعنصريّتها إلى علّة في المصدر الواقعي الدستوري والبيئي.
وأصل آخر في بقاء الخطاب الديني - السياسي وانتشاره في الواقع يتمثّل في ضعف الخطاب العلماني المضاد: (أو الخطاب الذي يزعم في نفسه أنّه خطابٌ علمانيّ)، الذي - للأسف - له انتشارٌ واسعٌ ويُشاعُ على أنّه يقدّم البدائل والحلول: وهو ما سوف انتقده في هذا الموضع، كما تمّ نقده في العديد من مقالات الموسمين السابقين، وهو خطاب شبه علماني يبني طروحاته على مغالطتين كبريين، الأولى: تتمثّل في كونه يرى الجمع بين الدين والسياسة في جُبّة الحركات الدينيّة السياسيّة ويتغاضى عنها في صميم الدساتير العربيّة وتشريعاتهم وقوّتها في الواقع، والمغالطة الكبرى: أنّه يبني تصوّراته من انطلاقات دينيّة - وإن ادّعى حُليّة شبه علمانيّة - مفادها أنّ الفكرَ قادرٌ على تغيير الواقع، وهو بذلك يعتمد الفلسفة التقليديّة والدينيّة لعصور ما قبل الماديّة العلمانيّة، ويوصله تصوّره إلى حلٍّ طوباويٍّ: (تأهيل الناس على العلمنة قبل تشريع العلمنة)، وهو ما يشاع تحت مسمّيات عدّة: (الإصلاح الديني والثقافي قبل الإصلاح السياسي، تجديد الخطاب الديني - السياسي قبل تجديد الخطاب السياسي نفسه، إعادة التأهيل الديني - الثقافي، وأخيراً ما يسمّى (علمنة الوعي) قبل علمنة الدستور) وهو تصوّرٌ على قدر ما كُتب عنه أو أوصي به، فإنّه لم يؤثّر على الواقع منذ نشأته، على الرغم من انتشاره منذ أزمات عدّة، والذي أثبت عجزه واقعاً وظاهراً في الوقائع العربيّة وما آلت إليه، من تسويف لبناء دساتير علمانيّة تراعي المواطنة وتجرّم ما يحول دونها، وهو ما يتحمّل مسؤوليته: الأنظمة والخطاب السياسي المقدّم لها عبر تأجيل مشروع الدولة الوطنيّة حتّى الانتهاء من مرحلة الإصلاح الديني، إعادة التأهيل، تثقيف الناس، (علمنة الوعي). وهو الخطاب الذي نراه عثرة في مواجهة الخطاب الديني - السياسي لأنّه يحمل في منطقه وعلّته الخطاب السياسي عينه، فأنت لا يمكنك أن تستبعد (التوجّه الشمولي) الذي تحمله فكرة (علمنة الوعي) أو (الإصلاح الديني)، وهو التصوّر والفرض والإلزام الذي وقعت فيه الأحزاب الشموليّة والدينيّة في إجبار الفرد على وعي تراه فوق جميع الوعي، وكأنّ في بال العلمانيّة أن تتحوّل إلى مذهبٍ دنيوي بديل عن الديانة، أو أنّه يعنيها أو آخر همها أن تكون جزءاً من وعي الناس حتّى يتمّ الاحتكام إليها سياسياً وعلميّاً، فليس ذلك في بال العلمانيّة: وعى الناس أم لم يعوا.. بل إنّ هذا التصوّر بحدذاته، هو تصوّر في صميم الفكر الديني بجانبه الرعويّ الذي يضع وصاية على الناس، ويراهم قاصرين عن تحمّل تبعات أعمالهم الدنيويّة.
(2)
إنّ خرافات (الإِنسان الأخير، والحلّ النهائي) منشؤها فكرةُ إمكانيّة تحويل الناس كلّهم إلى وعي مكرور ونموذج واحد، وهي الفكرة التي يبشّر بها دعاة الخطاب شبه العلماني، متورّطين بما يقتضيه الخطاب الديني عينه وتصوّره حول الإِنسان وعدم رشده، وهو الذي يعتمد في بنائه على تصوّر وأسس غير علمانيّة، لطالما تنطلق العلمانيّة أصلاً من قاعدة ترى العلم والمادة / الواقع أصلين موجبين للحياة ودعامتين للدولة الحديثة، وأنهما فوق الفكر الذي لا يمكن له إلا أن يكون واقعيّاً وذلك بالخروج من الواقع لتحليله وتطويره، أمّا الاعتماد عليه واعتباره واحداً فهو المأزق عينه، الذي تقع فيه الأحزاب الشموليّة والدينيّة في تصوّرها للعالم فكريّاً أحاديّاً من خارج وعي الإِنسان وقادر على تغييره وأنمذجته، والعمل على تحويل الناس بالقوّة أو بالمجادلة إلى الفكر عينه، على الظنّ أنّ شيوع الفكرة له انعكاسه ومصداقيته على الواقع، وهذا ما يعجز أيّ من دعاة هذا الخطاب شبه العلمانيّ على إثباته واقعاً في وقائع التاريخ الإِنساني، حتّى بالرجوع إلى الدول الغالبة على النموذج الروماني أو النموذج العربي الإسلاميّ فإنّك لا ترى في الوقائع أنّ فكرة الدولة قامت في الواقع بعد تأهيل الناس وامتحانهم في آخر السنة بالنموذج المطروح لشكل ومضمون الدولة، بل قامت الدولة أو الكيان بموجب القوّة الواقعيّة وما يحرّكها من فكرٍ هو إنتاج واقع، ولم يحتج النموذجان تأهيل الناس جميعاً حتّى يشرّعوا دولتهم، وهو الأصل في غلبة الواقع على الفكر، والذي يرفع عنك غشاوة الحجّة التي تسمعها دائماً حينما تجد فرقاً واتساعاً بين النظرية والتطبيق، كما قولهم: (هذا ليس هو الإسلام، أو هذه ليست الشيوعيّة، هذه ليست الرأسمالية...) وكلّ ذلك مفاده خلط وخرافة تظنّ القيمة في النظرية أو في اللغة / الفكر دون معناه على الواقع وإمكان أو مدى قدرته الحلوليّة واقعاً، والواقع أنّ إنكارهم ونفيهم للواقع هو أساسٌ في العلّة، فلا شيوعيّة في الواقع غير ما تمّ تقديمه عبر النماذج السوفيتية، الصينيّة، الكوبيّة وغيرها فالحقيقة على علّتها تبقى أكثر رؤية وصدقاً بناء على وجودها الماديّ الحيّ، وبالتالي كلّ ادّعاء لنفي الواقع والتعلّق بالفكر هو محضّ (وهم غير صادق، ولا يرتبط بالحقيقة بمعناها المادّي الوجودي وانتسابها للواقع، أيّاً كان تأثيرها وتقويمها في الميزان الأخلاقي حال وقوعها وتأثيرها على حال ثقفة وأخرى)، وكذا حال الإسلام السياسي، هو عينه المطروح في طالبان، حركة حماس، ثورة الخميني، تنظيم القاعدة، تنظيم الدولة الإسلاميّة، لا يكفي نفي الفكر عن تبعات الواقع لأجل الإبقاء على الوهم: (أنّ هناك نموذجاً طوباويّاً نهائيّاً سوف يأتي لاحقاً) يخلّص الناس من هذه النماذج الخاطئة، فهذا محض وهمٍ يبرّر للاستبداد بقاءه، ولا يقدّم حلّاً سياسيّاً قابلاً للتداول والحلول في الواقع، فماذا فعل خطاب إعادة التأهيل، وخطاب الإصلاح، وبرامج المناصحة؟ هل تراهن على أثرٍ إيجابيّ لها يوصل للمدنيّة وقبول الدولة والاختلاف والتنوّع.. ماذا يعني وصول اليمين الديني السياسي المتطرّف إلى السلطة في أكثر من نظام عربيّ؟ وماذا يعني سقوط الموصل تحت تنظيم الدولة الإسلاميّة (دولة البغدادي)، وماذا يعني دولة الحوثي؟ وماذا يعني دولة المرشد؟ وماذا يعني دولة اسماعيل هنيّة؟ أليس في الحال الذي وصلت إليه تلك الدول إثباتاً على خطأ الخطابات التي راهنت على (الإصلاح الديني وعلمنة الوعي)، وخطأ في اتجاه الخطاب والخطاب الأصيل في نقد الذات، والتغاضي عن المؤثّر الواقعي للبيئة العربيّة وأنظمتها السياسيّة متمثّلة في دساتيرها وما يمثّلها من قوّة في على أرض الواقع، وعدم الاكتفاء بنقد الخطاب الديني - السياسي، والذي هو حصاد هذا الزرع الدستوري الجامع بين الدين والدولة.