إن قوة الفرد تتعاظم بمقدار تطور درجة اليقين لِما يعتقده، وكلما تطورت درجة ذلك اليقين تعاظمت قوته، وهكذا يظل الارتباط الشرطي قائما بين قوة اليقين وعظمة القوة حتى يتوحدا في مركز واحد يتقاسمه اليقين المطلق والقوة الخارقة.
القوة التي تربك المنطق الاستقرائي للتجربة المعرفية فتفرض عليها الاستسلام بأن الاستثناء في ذاته عقيدة ترتبط بيقين الفرد نحو الأشياء لا يخضع ناتجها لضوابط المنطق الاستقرائي، وهنا تتبدد علامات التعجب التي تحيط بنا ونحن نشاهد ارتفاع عدد المفجرين أنفسهم لمصلحة الجماعات المتطرفة وفي سبيل دعم وجود تلك الجماعات، كيف يضحي المرء بحياته، أو كيف يختار الموت على الحياة، وهو الاختيار الذي يتنافى مع الميل الطبيعي للإِنسان.
والاستثناء ليس خاصية من خصائص علاقة الحلول بل هو نتيجة من نتائجها لأنه يرتبط بالإجرائية أي التحول والتغيير، بمعنى أن نوعية النتيجة لا تتناسب مع منطق المقدمة، وهذا بدوره يربك السلم الاستقرائي.
إن ضمان التوازن والتناسب بين المقدمة والنهاية النتيجة المفتوحة لطبيعة معطيات المقدمة يعتمد على برمجة مزودة بمعايير وأحكام تمارس بصورة تلقائية عمليات الإحصاء والتطابق.
واليقين كمؤسس لصدقيات البرمجة ينتج سلسلة من الانفعالات تكون طاقة مادية.
تلك الطاقة هي التي تربك التوازن الاستقرائي لتقويم الفعل وفق البرمجة الاستقرائية المخصوصة التي لا تعترف بقيمة الإرادة وفاعلية الاقتناع.
كما لا نغفل أن المقدرة الإِنسانية عندما تتجاوز الحد المعقول لمعايير وأحكام البرمجة الاستقرائية كما في الأنا المتطرفة أنها تستند في أفعالها إلى مُعين إلهي، وهو استناد يخصص الاستثناء كرمز ثابت لأي جماعة متطرفة.
وهذه الإعانة الإلهية التي تتحكم في الجماعات الدينية المتطرفة هي التي توهم الأنا بحقيقة فكرة الاصطفاء؛ أي الإجراء الحتمي لأنسنة الألوهية.
يقتبس خطاب القصدية من «ثيمة التحريض» قاعدة لصناعة تطرف الأنا وما ينتج عنها من مجموع، وكما هو في النص المقدس فالتحريض مرتبط بالشحن النفسي للأنا وحصول الاستثناء المرفوع فوق المنطق الاستقرائي، ويصبح في ضوء ذلك «الكم» قيمة مُلغاة مقابل قوة اليقين التي تحل محل القيمة الكمية، وهذا الاعتقاد هو الذي تستمد منه الجماعات المتطرفة قوتها المسلحة رغم قلة عددها.
والتحريض هنا شحن لسلسة انفعالات لإنتاج طاقة أو فعل القتال، والاستثناء هو عدم تقيد النتيجة بمنطق المقدمة وهذا يظهر من خلال التقابل بين الأعداد، فالتكافؤ العددي ليس مسوغا للانتصار أو الهزيمة، إنما مسوغ هنا يتحرك ما بين اليقين والصبر.
إذن اليقين المطلق الذي يُعدُّ الصبر كبرى علاماته هاهنا هو مصدر التكافؤ بين القوتين الماديتين، وأحيانا في إطار غلبة الاستثناء على المنطق الاستقرائي تتفوق قوة اليقين على القوة المادية مهما بلغت تفوق جاهزيتها.
والمقارنة المسلحة للجماعات المتطرفة عادة ما تقوم على عقيدة مقابل عقيدة لا عدد مقابل عدد؛ إنها مقارنة تحظى بصفة الكيفية لا الكمية.
إن مسألة الاستثناء التي تُحيط الجماعات المتطرفة نفسها به عبارة عن الطاقة والقوة الخارقة المرتبطة بعقيدة اليقين، وقد تبدو قريبة لفهمنا لو تعاملنا مع اليقين بأنه «مصدر قدرة الفرد» مع إتاحة يقين موازي له، وقد يتحول ذلك اليقين إلى قوة تطرفية متى ما أصّدر إلغاء بالإنكار والإبطال ليقين موازي له للانفراد بالكلية والحصرية المقدسة.
والقدرة في حالة تحول اليقين إلى قوة تطرفية هي طاقة كيميائية تنتجها سلسلة منظمة من الشحنات؛ أي مجموع المؤثرات الداخلية والخارجية التي تمتزج مكونات تفاعلاتها لتؤسس مركب جدار الشحنات التي تصوغ سلوك الأنا وفق انفعالات ذات ميول اشتراطية مرتبطة بتلك التفاعلات، كما أنها المنتجة النهائية لأشكال الطاقة التي تتحرك في ضوئها قدرة الأنا على المقاومة والدفاع والرفض والقبول.
وليست هذه فقط وظائف الطاقة الحاصلة من قوة يقين الأنا بمعتقد أحادي ثابت الصحة، بل هي تملك خاصية لتحويل قدرة الفرد كفعل وردة فعل عاديين إلى فعليين خارقين للطبيعة في مفهومهما العضلي والاستقرائي.
إن فكرة البطل الخارق هي فكرة «متوارثة» في التاريخ الإِنساني منذ أدب الأساطير.
والعرب في جاهليتهم لم يحفل أدبهم رغم عصور الاقتتال التي عاشوا بها بفكرة «البطل الخارق»، وحتى بعد الإسلام لم تكن الفكرة متواجدة رغم وجود القادة الذين قادوا الفتوحات الإسلامية؛ لأن النصر هنا كان يرتبط بإرادة إلهية لا بصفات خاصة للقائد.
وفي العصر الحديث عادت فكرة «البطل الخارق» من خلال الآداب الغربية وفنونها المختلفة، والأمر قد يكون مختلفا في العالم العربي، فالرمز الديني في العصر الحديث كان هو الممثل لقيمة البطل مثل «محمد بن عبد الوهاب وحسن البنا» ثم ظهر الرمز السياسي مثل» الملك عبد العزيز وجمال عبد الناصر، وصدام حسين وياسر عرفات»، ثم ما لبث الرمز السياسي العربي في التراجع عن دائرة البطل بعد نكسة العرب 67 ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، وفي هذه الفترة كانت الجماعات الإسلامية المنفصلة عن الوهابية والإخوان والمتواجدة في أفغانستان المحتلة من الاتحاد الروسي، هي التي أصبحت «رمز البطل» في الذهنية العربية وتدريجيا أصبحت القاعدة في أفغانستان «البطل الخارق» التي تأتي القصص الغربية عن كرامات المجاهدين هناك، ثم بدأ اسم أسامة بن لادن يزحف إلى دائرة الضوء كرمز للبطل الخارق وأصبحت الذهنية العربية تختزل القاعدة في ذلك الاسم، كما بدأت عقيدة الجهاد تتوسع حدودها من أفغانستان لتصل إلى بلدان الشباب المتطوعين للجهاد في أفغانستان.
وفي بدايات الألفية الثانية قامت معركة الإرهاب بين «المسلمين والغرب» نتيجة تفجير البرجين في أمريكا، والغضب الأمريكيين على المسلمين لم يكن في حقيقته حاصل ذلك التفجير إنما حاصل انهيار «رمزية البطل الخارق» الذي تمثله أمريكا أمام العالم تلك الرمزية التي روّجت له الأفلام الأمريكية، فكيف تسقط تلك الرمزية من قِبل بعض الشباب المتطرفة، إنه كشف الحقيقة الهشة لأسطورة البطل الخارق للعم سام، ويتكرر ذات الأمر مع «إسقاط تمثال صدام حسين» ليكتشف العرب «هشاشة أسطورة البطل الخارق الذي آمن به الكثير من العرب».
ويمكن استثناء الحركات الشيعية من متاهة «البحث عن البطل الخارق» بفضل «ولاية الفقيه».
لكن اليقين لا يظل على الدوام منتجا للاستثناء إنما هو كذلك في مرحلة تأسيس أحادية العقيدة حتى تتأكد الأنا من قيمة ما تعتنقه من اعتقاد، ثم تبدأ مرحلة الاستثناء في التعقلن حتى تتحول إلى خاصية منطق مكونة ببرمجة استقرائية لمعايير وأحكام تتفق مع مقرراتها ومناهجها، وهو ما يؤثر على تطوير فكرة التكافؤ بين القوى.
وبذلك تتجاوز قيمة اليقين حصرية الاعتقاد الخاص بالأنا لتتضمن المنطق الاستقرائي وتوفير التقنيات اللازمة لصناعة قوة مادية تضمن استمرار قيمة اليقين.
أي الجمع بين قوة اليقين وقوة السلاح لتحصيل تكافؤ بين قوتين ماديتين؛ وبذلك يصبح التناظر والتماثل بين «ما يدخل في مضمون مسلم» وما يدخل في «مضمون الكافر»، أي أن المسوغ الكمي دخل في حسابات التكافؤ المادي.
ويصبح اليقين إشكالية عقدية في حالة الاكتفاء بخاصية الطاقة، مجرد إنتاج سلسلة من الانتماءات المنتظمة التي تهدف إلى تغيير مخصوص وإنتاج مخصوص، والمخصوصية هنا هي مسألة طبيعية لعملية التغيير لكن ليست بالضرورة أن تكون دلالة ارتقاء، خصوصاً إن كان الهدف من التغيير إعادة إحياء تجربة معينة، فالتعيين هو قصد تأطيري لتمهيد نوع من الإحلال وأي تعارض بين مواصفات ما هو داخل الإطار وما هو خارج الإطار يؤدي إلى صراع مع المعطيات والأشكال النهضوية، مما يحول ذلك الإطار إلى فاصل بين المؤثرات.
وعندما نحلل سلوك الأنوات المتطرفة وما يتشكل من خلالها من جماعات دينية جهادية أو ما تصنف تحت جدول «الجماعات الإسلامية المسلحة»، لابد أن نستحضر ذلك التصور بدءا من فكرة الاصطفاء التي تسيطر على أتباع الجماعات المتطرفة المسلحة وصولا إلى تشكلهم وفق علاقة حلولية لها خصائص ولها نتائج التي تمثلت في القوة الخارقة التي يتمدد من خلالها الجماعات المسلحة بدءا من القاعدة مرورا بالجماعات المسلحة في الصومال واليمن وسوريا وأخيرا داعش في العراق، وهو امتداد بقوة ترسم حوله علامات تعجب من المراقبين والمحللين والتي تتعدد تكهناتهم بأن قوة مثل هذا الامتداد قد شكلتها قوى عالمية مثلما كان الأمر مع القاعدة.
وهنا علاقة مُقامة بين داعش والإخوان في السعودية في زمن الملك عبد العزيز آل سعود، فكلا الجماعتين أبهرت بريطانيا في حينها وهاهي اليوم داعش تبهر العالم بقوتها ووحشيتها نحو الآخر، لتقلب موازين القوى وتدفع لتخالف عالمي يركض في المنطقة، ولعل تلك الأمور هي حاصل التكافؤ المطلق بين يقينهم بما يعتقدونه، وإرادتهم في تنفيذ وإتمام ما يعتقدونه، بيقين استعمر طاقتهم ووحد جهة هدفهم، وهذه الأنا المتطرفة التي تقود تلك الجماعات هي التي حولت كل طاقة إلى قوة متوحشة لا تعرف الرحمة ولا الشفقة.
كما أن طبيعة استيعاب الأنوات المتطرفة التي يقودها خطاب القصدية للتمكين لمفهوم ودلائل اليقين المطلق لا يخلو من بعد صوفي سريالي تنسب كل نصر إلى قوة ذات خصوصية إلهية ممنوحة للأنوات المُصطفاة من قبل إرادة إلهية.
وهذا الاعتقاد المنشور بين أنوات الجماعات المتطرفة له من يصدقه خارج تلك الأنوات ويسعى إلى الانتماء إليه والإيمان بمعتقد تلك الجماعات.