(الديمقراطيةُ أن تقبل عدوك)
(1)
جاء الإسرائيليون، كنت طفلاً، حين اجتاحت إسرائيل لبنان. يوم رأيت دباباتهم للمرة الأولى في صيدا، كنت أسبحُ في البركة التي بنى مكانها، محمود الدندشلي، بعد سنوات، بناية، وأسكن فيها قادة منظمة التحرير في لبنان. بعدها بعدة سنوات، أعطوا الطريق اسم ناتاشا سعد التي قضت بانفجار استهدف والدها مصطفي سعد أحد قادة أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية ذي الاتجاهات الناصرية، الذي يعود الفضل له ولحزبه في تطوير وعيي النقدي لعهد عبد الناصر، الذي فتشت على حسنات له في شبابي فلم أجد سوى بعض الحماس الجماهيري، الذي لا يصد عدواً ولا يبني دولاً أو يطعم المساكين.
كنا نصطادُ الضفادع ونسبح، لم تكن البركة سوى الأثر الباقي من بستان حمضيات قديم، قرر صاحبه، لأسباب أجهلها ويجهلها بقية الأولاد، قتل الأشجار وتشييد الأبنية، قبل أن يباغته الاجتياح. يومها، حضرت الدبابات، وقفت ميركافا على الرصيف الذي يفصل البركة عن العالم المتحرك. حين أطفأت محركها ظهرت خوذة السائق ثم فتح الغطاء الأعلى وظهر جندياً ثم تبعه الضابط بثلاثة نجوم. كانوا ثلاثة، ضابط وجندي وسائق. وقفنا، أنا وإياد رضوان الذي تحول، بعدها بسنوات، إلى طاهٍ في مطعم إيطالي في برلين. وعلي أبو زينة الذي تحول إلى عاطل عن العمل في لندن، وحين زرته قبل سنوات، اجتمع في بيته عدة شبان أعرف بعضهم، لعبوا الورق حتى الصباح وشربوا البيرة الشرعية بعدما تحولوا إلى مناصرين للحركات الإسلامية التي تحارب الكفار. وزياد حمود الذي ذاب في ألمانيا كالملح ولا أعرف عنه شيئاً منذ عقدين.
أما بلال اليوسف الذي كنا نسميه الياباني فقد قال لي أنه يسكن في (Liège)، ولا يعمل بسبب الطلقة التي اخترقت خاصرته أثناء حرب المخيمات، التي تعهدتها حركة أمل الشيعية من النظام السوري أيَّام حافظ الأسد. وأن الدولة في بلجيكا ترعاه هو وأولاده مدى الحياة.
نادى علينا الجندي. قال لبلال الذي يكبرنا بعدة سنوات، أنه سيعطينا بسكويتاً وسكاكراً إن أخبرناه أين (المخربون)، ذهب بلال وشتمه بعربية لا تخلو من علل النطق وفر هارباً وتبعناه. حين وصلت إلى بيتنا ومعي إياد وأخبرنا جدتي. قالت لا نريد منهم شيئاً سوى أرضنا. الكلاب أخذوا منا بلدنا ويريدون أن يعطونا مكانها بسكويتاً. لا ترد عليهم يا ستي.
جدتي التي تركت حيفا يوم النكبة، زارها بعد ذلك اليوم بأشهر ابن أختها الضابط في الجيش الإسرائيلي، ركن الجندي الذي يقود سيارته العسكرية أمام مفروشات زهير مرعي وترجل منها الضابط وصعد إلى بيتنا. لم تستقبله جدتي، قالت بصوت مسموع من غرفتها، يريد أن يراني ليأتي بثياب مدنية ولا يدنس بيتي بلبس اليهود. ذهب ولم يعد سوى بعد أيَّام برفقته زوجته وأولاده وتحمل سلسلة من توبيخات خالته، التي رغم موقفها من عمله، حضرت له منسفاً وسألته عن أختها وأخيها وبيتهم في حيفا.
(2)
في الطائرة التي أوصلتني إلى نيويورك، كنت أنام وأفيق. لم تكن حالتي طبيعية وتسمح لي بتابعة الأفلام التي يمكن اختيارها. الطائرة كبيرة وجارتي كانت تقرأ كتاباً بالعبرية الفصحى. في مطار الملكة عالية، جلست بجانبي في قاعة الانتظار وتحدثنا قليلاً. قالت لي إنها ذاهبة إلى نيويورك لأنّها تعيش هناك وأنها كانت تزور ابنتها التي تعمل في إسرائيل، مترجمة في شركة إنتاج تلفزيوني. لم ألتفت كثيراً، حين كانت تحدثني عن الأماكن التي أعجبتها في حيفا والناصر وعكا والقدس، تذكرت ذلك اليوم الذي وقفت فيه على تلة من تلال الفحيص الأردنية ورأيت فلسطين.
نحلم بفلسطين ونكره اليهود وإسرائيل. لطالما عرفت أن الكره ليس نتيجة مُرضية للذات، لكن كرهنا لإسرائيل واليهود، ليس آنياً، ليس نتيجة احتلال الأرض فقط. هو إرثنا الذي نحمله على ظهورنا أنّى توجهنا. في الطائرة جلست السيدة بجانبي أو أنا بجانبها. لطالما رأيت يهوداً في المطارات والمدن التي زرتها. حين قطعت الطائرة البحر المتوسط وبدأت بالمحيط، أخبرتها أني من فلسطين ولم أولد فيها بسبب الترانفسير الذي سميناه (النكبة) وأن جدي لأبي من قرية اسمها بيت دراس، حولت إسرائيل أرضها لمطار عسكري، وأن أبي ولد فيها قبل أن يغادرها إلى غزة مع أبيه وأمه المريضة، التي ماتت بعد النكبة بأشهر. وأن جدي تزوج من امرأة أخرى، قبل أن يكبر والدي ويدرس في القاهرة ثم يذهب إلى الأردن ومن بعدها إلى لبنان ويتزوج من صبية هُجر أهلها من حيفا إلى لبنان.
قالت لي جارتي في الطائرة، إنها تذوقت الفلافل في عكا وأكلت الأسماك في مطاعم عربية، وأنها لم تفهم كيف أن الإسرائيليين يدعوّن ملكيتها وابتكارها، في حين أنهم جميعاً جاؤوا من ثقافات لا يوجد ضمن قوائم موائدها هذه المأكولات ولا طرق تحضيرها. وأنها كانت تتعرف لأول مرة على الطحينة التي ما إن تضاف إلى الباذنجان حتى يصبح (بابا غنوج) وأنها وأنها … إلخ.
كانت جارتي يهودية وليست إسرائيليَّة، مع ذلك، فهي غير مرحب بها بالنسبة لي. بعد كل هذه السنوات من العداء، أصبح التمييز بالنسبة لي بين اليهودي والصهيوني، مسألة صعبة جداً. على الأرجح لا أنطلق من فرضية العداء لهم من منطلق المساواة الفعلية بين السيئ والحسن، ولا حتى يمكنني التفريق بينهما. لقد تربينا، دينياً، في المدرسة أنهم غشاشون ومنافقون، وهم كذبوا حتى على النبي محمد (ص) كما كانت تقول جدتي دون أن تطلب مني أن أقتلهم إن رأيتهم.
(3)
اليهود في كل مكان، الصهاينة أيضاً وكذلك نحن. قبل ثلاثة أسابيع، دخلت إلى مبنى البرلمان الفرنسي. لم تكن الزيارة مهنية بالكامل ولا سياحية بالكامل. بل بسبب تحديد موعد للنقاش بين النواب الفرنسيين حول التصويت على الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
كان النقاش طبيعياً وحامياً، في الغرب، وفرنسا، طبعاً، من هذا الغرب، يعمل اللوبي الصهيوني بقوة اقتصادية ومالية وسياسية لا يستهان بها. وهي قوة تؤثر، بشكل أو بآخر على قرارات سياسية كبرى، إن أرادت التأثير. غير أن حظ فلسطين هذه المرة كان قوياً. لقد جاء الاقتراح من الحزب الاشتراكي الذي يملك أغلبية المقاعد، تسانده غالبية الأحزاب الصَّغيرة الهامشية مثل الشيوعي والخضر وغيرهم. وهذه الأحزاب بغالبيتها، وإن انتمت إلى ثقافة أن إسرائيل هي الدولة المعترف بها وأن فلسطين كانت أرضاً بلا دولة. إلا أن الواقع السياسي الذي فرضه الفلسطينيون على مدى ستة عقود ناجرة، مدعومون من البلدان العربية التي تدعم القضية الفلسطينية وعدد كبير من دول العالم، التي لم تشترك في صناعة إسرائيل. وضعوا فلسطين على المسار الصحيح لكن البطيء والطويل الأمد.
كان نقاشاً. في الديمقراطيات الكبرى، لا يخرج النقاش عن المضمون السياسي المراد له سوى في لحظات نادرة وقليلة. لكن هذه اللحظة كانت، أتت، جاءت، حين اعتلى المنبر نائباً يهودياً - إسرائيلياً وبدأ بالبكاء والصراخ والعويل. ماير حبيب، وهذا اسمه، نائب في البرلمان الفرنسي يخدم إسرائيل أكثر مما يخدم فرنسا. لا تستغربوا، لقد حفر الصهاينة في الغرب أنفاقا من الكراهية في قلوب اليهود. هم يكرهون بلدانهم الأصلية في مقابل حب إسرائيل. وحين أتخذ التصويت بعد أيَّام من هذا النقاش لصالح فلسطين، قام الشبان اليهود بحرق هويته الفرنسية، معلناً، أنه لا يتشرّفُ بالانتماء إلى فرنسا وأنه ذاهب إلى إسرائيل.
في الجامعة، قالت لي صديقتي التي لم أكن أعرف دينها، قبلاً. ان هذا الشباب مثل كثير نمّوا الحماقة في عقله حتى غاب المنطق عنه كلياً. ثم أردفت أنها يهودية لكنها لا تمانع أبداً أن يكون للفلسطينيين دولة على أرضهم. كانت هذه اليهودية الأخيرة التي رأيتها.