خطاب سردي متقن لعذابات فقد الحرية
يتجرد الراوي من كل أحاسيسه ومعانية، ليسلطها بشكل كامل على هذه القضية التي يستشعرها الكاتب ماجد سليمان حينما يدفع به إلى سبر أغوار حالة الفقد، وعذاب السجن، وصراع الموثقين في أغلالهم مع الجلاد الذي يتفنن في عذاب هؤلاء المغموسون في عنائهم وصبرهم وتناقصهم واحد تلو الآخر.
فرواية «طيور العتمة» تخرج الحكاية من مفهومها المباشر إلى تدوين دقيق، وتصوير حاذق لأدق تفاصيل المعاناة، مع مراعاة للجوانب الفنية والتكنيك المفترض في سرد الأحداث وتفاعلها في ذهن القارئ، من منطق الاستدلال على هذا الهم الكبير، والمعانة المتفاقمة، والقلق المؤذي لمآل الحياة إلى مجرد وهم ينتهي بمزيد من الأذى والقهر.
فالشخصية (برهان) هو الراوي المحوري في هذا العمل، فهو الذي أخذ على عاتقه مهمة نقل المعاناة كاملة غير منقوصة، منذ أن عدد أسماء الرفاق اللذين تعرضوا لعذاب المعتقل، وقسوة السجانين الذين ينفذون تعليمات بعقابه مع رفاقه أثر تمرد لم ينجح، إلى ما وصلوا إليه من عقاب شديد وأليم جعلهم يتناقصون تحت التعذيب واحد تلو الآخر مما حدا بالراوي أن يقارن بين الحرية والسجن، وبين الحياة والموت، إضافة إلى مقاربات ومقارنات إنسانية ووجدانية أخرى.
يحضر المكان في هذه الرواية بشكل لافت نظراً لأن الحيز محدد المعالم، فالوصف هنا يتوه في التفاصيل الدقيقة لظاهرة المكان الذي يجعل من السجن وأركانه خطاباً تفصيلياً يؤرخ الكاتب من خلاله زمن المعاناة التي يتخيلها في هذا المعتقل، وإن نوه الكاتب في مطلعها بأن كل ما يدور فيها هو من قبيل المتخيل، والمفترض والاستنتاج المتوقع لردة الفعل المحتملة حينما يجعل من الشخوص في هذه الدائرة الدموية المميتة أبطالاً في مواقفهم، إلا أنهم لا يستطيعون الوقوف كثير في وجه هذا العقاب الأليم، ليتساقطوا واحداً تلو الآخر في معاناتهم وأوحال عذابهم ومعاناتهم.
واستشعاراً من الروائي ماجد سليمان لهذه المعاناة التي يتناولها فقد سعى كثيراً إلى تدوين مفارقات وجودية وإنسانية كثيرة تنبع من هذا السجن وقسوته وظلامه السادر، فكيف أنه استطاع وببراعة وتمكن من أن يستقصي حركة الكون من خلال هذه الأحداث التي تعصف بهؤلاء الذين يرقدون على جراحهم، إلا أن بعضاً منهم يجدون عزائهم في نظرة مختلسة للشمس حينما تطل عليهم بشكل خاطف، وكذلك انتظارهم لضياء قمر المدينة الذي يبدو مطفأ لفرط أحزانه، بل إنه يمعن في وصف تفاصيل الليل حينما يهجع الرفاق منتظرين وجبة أخرى من العذاب، ولا ينسى أن يصور المعاناة لاسيما حينما يدهمهم برد الشتاء القارس في ليل يفتقدون فيه إلى أبسط معاني الدفء.
أما حيز الزمان في هذه الرواية فإنه محدود بأيام سجن هؤلاء على ذمة هذه القضية التي ساقتهم أقدارهم ونواياهم إليها، فكانت فترة التحقيق هي الفترة المحورية للزمن، وما تلاها من تفاصيل يومية كونت حلقة أخرى من حلقات هذا الزمن الذي يسير ببطء وتفاصيله مؤذية، حتى أن القارئ لهذه الرواية يصاب بألم وحيرة وشعور غريب وكأنه معهم لشدة ما يصفه الراوي، وما ينقله من أفواه الشخوص الذين يقاسمهم أدق تفاصيل المعاناة.
لغة السرد في هذه الرواية متقنة، ودُوِّنَتْ بمستويين متوافقين هما مستوى اللغة السردية، أو ما يسمى الخطاب الحكائي حينما تكون اللغة متفلتة من إسارها، لتتنوع وتتبدل، وتسهب في إشارات عميقة، وترسل الكثير من الصور والمعاناة بأسلوب حكائي بسيط يتناسب مع الموقف الذي يمر بهؤلاء الشخوص، أما المستوى الثاني فإنه يتمثل في لغة الكتابة لدى الروائي «ماجد سليمان» حينما كتب هذه الرواية بلغة متوازنة ورصينة، لم يكن فيها إغراق في الألفاظ المستخدمة في شرح الأحداث والتفاصيل، أو تفخيم في بناء اللغة إنما جاءت -كما أسلفنا- محملة على منهج اللغة المناسبة للأحداث.. فلكل مقام مقال، حتى أن الرواية خلت من أي تكلف أو حيف في البناء اللغوي.
بيئة النص في هذه الرواية كما أسلفنا وأوضحه الكاتب في المدخل الأول للرواية بأنها أحداث مفترضة، فطالما أنها كذلك فإن البيئة ستكون مفترضة أيضاً في الإطار الشكلي، أما في المضمون فإنه مطابق للسياق المعروف عن حياة السجن، ومعاناة السجناء. من هنا فإن البيئة لا تخرج عن مضمونها، أو إطارها المعد لمثل هذه المشاهد التي عاشها الشخوص الذين وقعوا في دائرة ضوء السرد، ليتقن الكاتب لعبة البناء السردي وكأنها حقيقة ماثلة تنثال من أفواه رواتها بعد أن أتموا حكايتهم الأليمة كاملة غير منقوصة.
** ** **
إشارة:
- طيور العتمة (رواية)
- ماجد سليمان
- دار الساقي - بيروت - لبنان 2014م
- تقع الرواية في (126صفحة) من القطع المتوسط