للأستاذ الدكتور جمعان عبدالكريم الفضل الأكبر في حثِّ هذين المقالين حينما نشر مقاله (النقد الثقافي.. غير علمي وغير أدبي) في صحيفة الجزيرة الملحق الثقافي، وبيّن فيه اضطراب منهجية النقد الثقافي، مما أثار تفكيري لمناقشة نظريات مابعد الحداثة ككل والنقد الثقافي أحدها، فكان هذا المقال الذي هو أحد مقالين يناقشان نظرية النقد الثقافي.
يكمنُ نقاشنا للنقد الثقافي في أطروحات نظريات ما بعد الحداثة التي يغلب عليها التشتيت والتفتيت، فعندما نستحضر منهج النقد الثقافي أو الدراسات الثقافية فإننا نستحضر هذا التشرذم في النظرية النقدية الذي أصاب نظريات مابعد الحداثة، لذا فإن النقد الثقافي لم يُقنن بنظرية جامعة له كما هو الحال في البنيوية والسيميائية وغيرها بل إن بدايته اتخذت طابَع (الدراسات الثقافية) كما عند إدوارد سعيد، فسعيد لم يقعّد لمنهجه بتنظير ينطلق منه لنقد مابعد الكولونيالية/ما بعد الاستعمار وإنما اتكأ على التطبيق مباشرة دون استحضار تنظير يتعامل مع دراسات (التابع) فانشغل وأبدع في كشف سياقات الروايات التي تخبئ في مكنوناتها علوًّا يزهوا به المتبوع. ولعل ارتباط النقد الثقافي بغيره من المعارف والعلوم الإنسانية سبب رئيس في عصيانه على التنظير إذ إنّ كل النظريات المنكفئة على ذاتها تمنحنا فرصةًً كبيرةً لإخضاعها لنظريةٍ وتقعيدٍ ننطلق منه للتطبيق بينما لا يتوافر ذلك في النظريات التي تهتم بالغير أيًّا كان هذا الغير، فالتفكيكية مثال آخر لنظريات مابعد الحداثة التي عصتْ التنظير ولم تخضع له بدءًا من سكّ مفهوم خاص به مما حدا بدريدا أنْ يعرّفها سلبًا أو نفيًا حينما قال :» إن التفكيك لا يمكن أن يُختزل إلى أدواتية منهجية أو إلى مجموعة من القواعد والإجراءات القابلة للنقل» ( الكاتبة والاختلاف 61) فقد نفى عنها كونها منهجًا أو نقدًا أو تحليلًا، والتفكيك في نظره « حدث لا ينتظر تشاورًا أو وعيًا أو تنظيمًا من لدن الذات الفاعلة ولا حتى من لدن الحداثة « ( الكتابة والاختلاف 61)، فالتفكيك هو تشتيت في ذاته وتشتيت في فعله وهذا هو ديدن نظريات مابعد الحداثة، وهو أيضا ما يراه مناوئ النظريات المعاصرة عبدالعزيز حمودة بقوله : « فإن ما بعد الحداثة... تستعصي على التعريف وترفض التحديد» (الخروج من التيه ص32).
وعندما نعود للنقد الثقافي - باستحضار كونه نقدًا ما بعد حداثي- فإننا لا بد وأن نعي هذه المنهجية التي طالتْ نظريات مابعد الحداثة لأنها تجاوزت الانغلاق، سواءً الانغلاق على النص أم الانغلاق على اللغة، وبذا فإنه ابتدأ ولا يزال -في نظري- عصيًا على التنظير حتى وإن استحضرنا تنظير الغذامي (القيّم)، لأن تنظير الغذامي للنقد الثقافي أطّره عندما حصره بالقبحي ونحّى الجمالي بتاتًا، والإشكال في النظرية هنا حينما نريد أنْ نوافق في التنظير بين القبحي والجمالي وهذا ما لم أجدْه عند كثير ممن تناول نظرية النقد الثقافي الجمالي. ولعل إخضاع النقد الثقافي لمنهجين يشتغلان على القبحي والجمالي يعطي هذا المنهج بعْدًا انفتاحيًا أكثر وبالخصوص حينما نعلم أن نظريات مابعد الحداثة تميل للانفتاح لا الانغلاق بل إنها (تفكك) المركزيات والانغلاق تمامًا، وقد يكون انبعاث البنيوية التكوينية من صلب البنيوية اللسانية مثال في تفريع المناهج ومحاولة توسيعها. فلا يزال النقد الثقافي وليدًا على النظرية، ولا يزال الإيقان به كمنهج نقدي يشوبه التردد والحيْرة لتشتته في ذاته وتشتته مع غيره من العلوم الإنسانية، وهو بأمسّ الحاجة إلى مزيد من التقعيد والتنظير ليأخذ حظه في الساحة النقدية، لأن الناقد حينما يتعامل مع نظرية متكاملة فإنه يخضع لها حتى وإنْ انزاحت عن النقد الأدبي لأن العبرة بالنظرية أكثر من منهجها.
وبما أن نظرية النقد الثقافي تعيش فترة مخاض طويلة وتحاول أنْ تتشكل وإنْ تشكل جزء منها مع الغذامي فإننا حينما نتغلغل في نظرية النقد الثقافي فلا بد لنا من استحضار (نظرية الثقافة) التي هي جزء أساس في هاته النظرية باعتبار النقد الثقافي غيري لا ذاتي وعلاقاته تمتد إلى العديد من العلوم الإنسانية، وهذا ما لم أجده فيمن كتب عن نظرية النقد الثقافي بل إن الغذامي يشوب نقده كثيرًا بمفاهيم ونصوص مقدسة تحيلنا إلى حصر شديد لمفهوم الثقافة في نقد النص الأدبي والصورة العالمية، فإن ما يحدد القبحي من الجمالي هو مفهوم الثقافة ذاته لأن الثقافة هي التي تجعل من مفهوم ما قبيحًا ومن مفهوم آخر جماليا، فسؤال (نظرية الثقافة) ينبغي أن يكون حاضرًا ونحن نحاول أن نقعّد وننظّر للنقد الثقافي وخصوصًا حينما نقارنه بالنقد الأدبي الذي لا يهتم بمفاهيم الثقافة بتاتًا وإنما ينحصر في النص ومكونات النص كالمؤلف والمتلقي، فمن غير المناسب منطقيا أن نتعاط ى نظرية النقد الثقافي دون أن نولي (نظرية الثقافة) أي اهتمام. ولعلنا نستطيع أن نضيف هذا -أيضًا- إلى عوامل تشتت نظرية النقد الثقافي.
صالح بن سالم - المدينة المنورة