يعد الإنسان من الكائنات التي لا تعيش منعزلة بل هو يعيش في مجتمعات وتتكون تلك المجتمعات من تقسيمات هرمية تبدأ بالأسرة النواة ثم العشيرة، ثم القبيلة، ثم الشعب، وهنالك تفريعات متعددة وتقسيمات أخرى في كتب النسب ليس هذا مجال عرضها، ولكن المجتمع الحديث انتقل إلى المدينة لتكون عوضاً عن التقسميات كافة سوى الأسرة التي هي النواة، ولأجل ذلك فقد اضمحل مفهوم العشيرة والقبيلة واستمر مفهوم الشعب والمدينة والأسرة.
غير أن مفهوم القبيلة كأول تنظيم يمتلك القوة التي تمكنه من الدفاع عن الذات في مواجهة القبائل الأخرى لما يزل فاعلاً في بعض الأمم كالأمة العربية بأسباب متعددة لعل أهمها الاستغلال الإيديولوجي الكبير لتجهيل الناس ولإبقائهم في إطار العصبية القبلية غير الواعية مما يمكن من استغلالهم كأدوات للطغيان... ولكن التطور الحضاري جعل الحضارة الإسلامية تزخر بحياة مدنية تعايشت في الوقت نفسه مع التشكيلات القبلية من العرب ومن غير العرب التي قد تظهر فجأة على مسرح الأحداث بسبب ظروف ما يدفعها مستغل ما...
وفي هذا الزمن التواصلي العجيب زاد اضمحلال مفهوم القبيلة وإن بقي كمجرد مؤشر على أصل أو تأريخ قديم تحتفظ به القبيلة لتفخر بمنجزاتها الإنسانية إن كان يصح أن نطلق على ما تقوم به القبائل منجزات إنسانية ... فالعالم صار مدينيا يعيش الحضارة بطرق متقاربة وتحت تنظيم الشعب والدولة التي تنظم ذلك الشعب سواء أكانت دولة متطورة أكثر مدينية أم كانت دولة متخلفة تعمل على تغذية التناقضات والعصبيات والإيديولوجيات لتستمر في البقاء...
ولا شك أن الجهل والاضطراب والتخلف والفقر والحروب حينما تحدث يبدأ الناس في تنظيم أنفسهم في تنظيماتهم المعتادة أو ابتكار الأحلاف المختلفة بهدف حماية أنفسهم ضد الآخر..
وبتتبع التأريخ العلمي يجد القارئ أن التقدم العلمي اقترن بأفراد ولم يقترن بجمعيات ولا تجمعات ولا حتى ما يسمى بالفريق البحثي – رغم أهميته -، وما ذلك إلا أن الملكة العقلية فردية، وهي تختلف كما أن المؤثرات الخارجية في الأفراد تختلف أيضا وتختلف الاستجابة من فرد إلى آخر كما تختلف في الوقت نفسه ردة الفعل من فرد إلى آخر، ولكن ذلك لا يقلل من أن العمل الجماعي هو أهم طريقة إلى النجاح بشرط إعلائه من قيمة الشرط الفردي في تحقق الفكر وتحقق العمل معا...
ولذا فإن التفكير عمل فردي، والعلم عمل فردي، والثقافة عمل فردي، والفن عمل فردي، حتى إن كان كل أولئك ضمن تجمع ما أو مذهب ما.
والمشكلة حين يطغى الجانب الجمعي على الجانب الفردي وخصوصاً في التأثر بالتشكل الاجتماعي الأولي وهو الأسرة والقبيلة عوضاً عن الفريق العلمي والجمعية
لأن التأثر بهذي الشكلين يعني ذاكرة ممتلئة تفضل الجمود النوستالجي كما أنه يرتكز على الدفاع ضد الآخر كمقاومة بهدف البقاء ولا يعني القيام بنتاج علمي أو ثقافي أو فني رفيع.
وقد لاحظت أن الأسر العملية في التأريخ الإسلامي إنما تنشأ وتزدهر في حالة الضعف والتخلف وسيادة الجهل حيث يبدأ أفراد من أسرة واحدة بحفظ العلم بهدف البقاء وخوفا من تلاشي المعرفة وغالبا ما تكون تلك المعرفة إيديولوجية لا علماً محايدا صارما هذا من ناحية ومن ناحية أخرى بهدف استغلال المعرفة وتوظيفها لصالح تلك الأسرة لتحظى بمكانة اجتماعية أو بمكانة سياسية في إطار منظومة التخلف وليستمر النظام متخلفاً بدعم أسرة علمية إيديولوجية متوارثة والمشكلة ليست في ذلك بل المصيبة الكبرى أن تلك الأسرة العلمية قد يصل بها الحال إلى احتكار العلم وإلى تجهيل الناس واستغلالهم من خلال ذلك العلم وهذا لا شك ما حدث في العهد المملوكي والعهد العثماني الذي بلغ فيه الجهل إلى أقصى مدى بتحالف الأسر العلمية مع الأنظمة المستبدة أو بتحالف الفقيه مع الشيخ، وحين استطاع العالم الحديث نشر العلم بطرق حديثة في تنظيمات مدرسية وجامعية عارضها بعض الشيوخ ذوو النفوذ المستند إلى أسرة علمية حتى يبقى نفوذهم ولكن الاكتساح العالمي الحضاري في صورة تنظيمات الحديثة لم يستطع أحد الوقوف أمام مده، ولذا لا نجد في الغرب شيئاً اسمه ( أسرة علمية ) توارث فيها الأب عن الابن عن الحفيد كهنوتا علميا بل نجد فرصا متساوية للدراسة والبحث المحايد يصل فيها إلى التميز والتأثير الأكثر قدرة والأكثر جلدا والأكثر علماً ، لكن ما يلفت النظر أن المجتمعات المتخلفة مازالت حتى الآن تنظر إلى الأسر العلمية بنوع من التقدير وهذا يدل على جرثومة زرعت منذ مئات السنين في عصور الظلام التي كانت فيها الأسر العلمية من أقوى العوامل على استمرار ذلك الظلام بما حفظته من علم إيديولوجي هزيل وبوقوفها الصامت مع الجهل والاستبداد بل لاعتبارها غير العلمي أن العلم يجري في تلك الأسرة مجرى الدم من العروق وهذا يدل على غاية الجهل في حد ذاته
إذن الأسر الع لمية كانت إحدى عوامل التخلف الذي ران فترة طويلة من الزمن، ومن الواجب إعادة دراسة الأسرة العلمية دراسة خطابية كتلك الدراسة التي قام بها ميشال فوكو للتنظيمات التي تنتج خطابها وتمارس خطابها وأثرها في الوعي الاجتماعي والتقدم العلمي بل أثرها المتسرب إلى واقعنا الحاضر..
ومما جعلني أقف على مصطلح الأسرة العلمية كتنظيم اجتماعي احتكاري للمعرفة هو خطر هذا التنظيم الاجتماعي والدور الذي مارسه في التأخر باسم العلم.
والأعجب ما أراه أحيانا من تردد مصطلح ( قبيلة المثقفين ) هنا، فهو مصطلح يشير إلى أن المثقفين تحولوا إلى تجمع قبلي يضاف إلى التجمعات القبلية العصبية التي يعاد إنعاشها، وقبيلة المثقفين تعني أنهم فئة متميزة تحتكر الثقافة وتدافع عن نفسها كما تدافع القبيلة عن نفسها، وأنها كما يقال تواصليا الآن ( مجموعة مغلقة ) فلن تكون مثقفا شرعيا ما لم تعترف بك قبيلة المثقفين وبعد تجربتي وملاحظاتي تبين لي فعلاً أن المثقفين هنا يتحركون كقبيلة لها اجتماعات القبيلة واحتفالات القبيلة ولها شيوخها ولها نياقها وبهائمها والمشكلة أن لها مرتكزات معينة تدور عليها كقبيلة ثقافية وهذه المرتكزات دائما ما يعاد إليها ليس بهدف نقدها وإنما بهدف تمجيدها وليس بهدف معرفة قيمتها الحقيقة بل لمزيد من المبالغة في إضفاء تلك القيمة. القبيلة الثقافية هي تماما كالقبيلة الدينية توأمان تقومان سداً منيعاً في وجه التغيير بالرضا بالثبات وبالتغاضي المتعمد عن لعبة العصبية القبلية التي تنظم بينهما بإحكام حفاظا على ممتلكات كل منهما والمشكلة أن الذين يطلقون مصطلح قبيلة أطلقوه لتميزهم عن غيرهم وهو تميز لعمري صحيح جداً هم قبيلة حاملة لقيم القبيلة السلبية دون أن يعوا بذلك هم قبيلة ثقافية ضد القيم الإنسانية باسم القيم الإنسانية هم يمثلون مع القبيلة الدينية ما يسمى بالنموذج الارتكاسي الذي أشار إليه نيتشه والذي تتمثل أهم خصائصه في العجز عن التقدير والمحبة، والسلبية، وإلحاق الأخطاء بالآخرين وتوزيع المسؤوليات والاتهام الدائم للغير، ولا ريب أن النموذج الارتكاسي الذي تمثله قبيلة المثقفين وقبيلة رجال الدين هو نموذج مصنوع بتعمد ومتصنع تلقائيا بسبب الظروف المهيئة لذلك التصنع دون وعي نقدي عميق وشجاع، فالنموذج الارتكاسي يظهر كما يقول نتيشه عندما يتم فصل القوى الحيوية عما تستطيعه. فكل قوة حية يتم فصلها عما تستطيعه تصبح كما يقول عبدالعزيز بومسهولي محرومة من شروط ممارستها لنشاطها الحر مما يجعلها قوة ارتكاسية أو نموذجا ارتكاسياً. أي نموذجا يعمل ضد الحياة ويعمل ضد نفسه وضد ذاته وضد وجوده.
هذه النماذج الارتكاسية ( الأسرة العلمية، القبيلة الثقافية، القبيلة الدينية ) هي بطريقة أو بأخرى أدوات لتجميد المعرفة والعلم والحضارة وهي تحافظ على ذاكرة ممتلئة مبجلة أو مقدسة تتذكر كل شيء لتشقى بكل شيء ولتظل تعيش في الذاكرة لا في الواقع الحي.
د. جمعان عبدالكريم - الباحة