مدهش أن يجتمع دارس أدبي أو ناقد ومبدع في كتاب واحد وبينهما ألفة وفهم ثقافي مشترك ولغة راقية تنسج إلى جوار النص نصاً جديداً في مسيرة تنأى عن الاستعراض والتصيّد وتسجيل الأمجاد المتخيّلة عبر قمع النصوص أو تحميلها ما لم تشر إليه.
هذا الالتقاء يقدم الكتب النقدية التي تصاغ برؤى رزينة يحفزها السرد فتغدو به ومعه أيقونات إبداع تمنح القارئ معيناً يؤازره في الاكتشاف والتذوّق.
قلت هذا حيال جهد إبداعي ونقدي راقٍ قدمه للمكتبة العربية الأديب والناشر الزاهد في صخب الساحة الثقافية وبهرجتها الأستاذ عبدالله الماجد عبر كتابه «البناء الفني داخل جدران قديمة.. دراسة في فن عبدالله الناصر القصصي» وهو احتفاء بالمذهب الانطباعي التأثيري الذي ينظر إلى الإبداع على أنه تفسير ونقد للحياة البشرية، وأنه تفسير للإبداع وتحليل لأساليبه. وهذا المنهج -حسب مقدمة المؤلف- «هو أقرب المناهج النقدية إلى النصوص الإبداعية، فهو لا يتعامل مع نصوص الإبداع من الخارج فيفرض عليها ما يراه من الأصول والقواعد الثابتة «تطبيقاً آلياً» وإنما ينطلق من تأثير النص الإبداعي في النفس الإنسانية ومدى تأثرها به».
وأستاذنا عبدالله الماجد واحد من أهم رواد الأدب والصحافة الثقافية والدرس النقدي لم تنقطع علاقته بالحياة الإبداعية رغم انشغاله بإدارة واحد من أهم دور النشر في الوطن العربي «المريخ» طيلة ثلاثة عقود فكان رافداً حقيقياً للنشر الاحترافي الأدبي والعلمي مع عناية خاصة بتقديم الدوريات الفريدة في مجالها، وطيلة السنوات الفائتة تساءل كثيرون عن غيابه متذكرين منجزه الثقافي وحضوره الجميل، وقد عاد قبل سنوات فكتب سلسلة من المقالات في مجلة «الإعلام والاتصال» لكن المجلة توقفت ولم تعن بها وزارة الثقافة والإعلام فباتت بلا مجلة تعزز حضورها وهويتها!
وكتابه الجديد إضافة مهمة، ودراسة نقدية بقلم مبدع لا يستعرض ولا ينظر من علٍ إلى النصوص بل يعيش في عمقها، ويستمطر سحائبها، ويدعوها إلى رحلة دلالية باذخة في حدائق وعيه وتعدد منابع ثقافته التي منحته القدرة على الاتصال بالتراث النقدي والمعطى الحديث أيضاً في تكامل نوعي ينساب برقة وشفافية في كل صفحات الكتاب الذكي منذ غلافه الأول.
والقاص عبدالله الناصر كاتب أصيل قدّم أربع مجموعات قصصية، وتميزت نصوصه القصصية باقترابها الواعي من الجذور وثراء الأيام الأولى وعمق معاناتها ودلائل أساطيرها أو حكاياتها الشعبية، ورصدها الحكيم لتقاطعات الأمس مع خطوط الراهن في المدن الأكثر صلابة حيناً، أو اغتراباً أحياناً أخرى، وهو في كل ذلك يكتب بمهارة عالية ولغة سلسة وقاموس واضح وعميق في آن، مع التكثيف وتتبع خيوط الحكاية ليغدو القارئ شريكاً معه في تأسيس معمار النص وخط ترحاله الدلالي المتعدد.
ورغم مميزات النص السردي عند عبدالله الناصر ومكانته العالية عند نقاد خارج البلاد ترجم له بعضهم إلى لغات أخرى إلا إنه لم يلق ما يستحقه من حضور وقراءة في الداخل، وكانت القناة الثقافية وعدت مشاهديها بلقاء معه قبل أشهر ثم لم تفعل، وقيل للمتابعين إنها أجهزة الإرسال التي خذلتهم، وقد لا يكون الخذلان الأول ولا الأخير!
هذا الكتاب الإبداعي الفريد فيه وعد بعودة أستاذين مبدعين إلى ساحة النشر والحضور والإبداع لما يمتلكانه من تاريخ أدبي ناصع وقدرات معرفية وتجارب حياة ثرية رغم انشغال الناصر بالإدارة الثقافية عدة سنوات والماجد بالنشر وصناعته ومعارضه لكن الساحة «الدفانة» لن تنسى لهما العطاء العميق والطاقة الخلاقة في تقديم فكر وإبداع وتجارب صحافية ثقافية ذات رؤية وارتباط بالتراث مع وعي متفرد بالعصر ولغته وإبداعه المتجاوز.
محمد المنقري - جدة