الأقلام الحرّة العقلانية المستنيرة تتكاثر وتتزاوج وتتوالد في الخليج خاصة، وبين العرب عامة.. هذا ما ألاحظه منذ فترة؛ ولذلك أنا متفائل جدًا وسعيد جدًا.. وأشعر بقرب خروج المركبة العربية من النفق المظلم. قد يطول السير قليلا نحو النور والأكسجين النقي، وربما يستغرق عددًا من السنوات أو العقود؛ ولكننا في النهاية سنخرج يومًا من النفق. والجميل هو أننا قبل أن نخرج خروجًا كاملا، نقترب في كلِّ يوم من المخرج، وبذلك تتسلل إلى داخل مركبتنا العربية المحجورة المحجوزة في النفق جرعات عالية من الضوء الفكري والهواء العقلي العليل، وتزيد تدريجيًا بشكل متصاعد.. هذا ممتع جدًا لي، أعني أن متابعة هذا التحوّل التدريجي ممتعة، وأظنها متعة ستستمر وتتضخم حتى يحين موعد الفرج الكبير والانعتاق الطويل العريض.
هذا هو الشقّ الأول القصير من هذه المقالة، والشق الثاني سيكون أطول قليلا، وقد يستغرب منه البعض، ولكنه تفسيرٌ أراه صحيحاً ودقيقاً جدًا، وهو أن المركبة العربية المختنقة هي وركابها في النفق المظلم، كانت تسير ببطء نحو النور والهواء، حتى برز عناصر الجماعات الإرهابية، خاصة الأخيرة منها، كداعش وأخواتها، فساهم هؤلاء الإرهابيون في دفع هذه العربة أو المركبة، فأصبحتْ عجلاتها تسير بشكل أسرع نحو آخر النفق، أي نحو المخرج والخروج المنشود.
ومن الطبيعي أن يطرح سائل بعد قراءة ما سبق هذا السؤال: كيف يكون ذلك؟ أي كيف ساهم الإرهابيون في دفعنا للخلاص من الظلمات والاختناقات؟!
والجواب ببساطة هو: لم يحدث في كلِّ تاريخنا العربي عامة والإسلامي منه خاصة أن أحدثتْ جماعات حركية صدمات جماعية لعقول كثيرة عربية ومسلمة، بمثل هذه الطريقة الفظيعة التي تمارسها «داعش» وأخواتها اليوم.
رُبَّ ضارة نافعة كما يقال، فقد ظهر لي بوضوح من تتبع مشاركات الناس في مواقع التواصل وغيرها من الأماكن والمجالس والمنتديات، أن شريحة لا يستهان بها في مجتمعنا السعودي مثلا، خاصة من فئة الشباب من الجنسين، بدأتْ في التساؤل ووضع علامات التعجب والاستفهام الكبيرة الكثيرة الممتازة المطلوبة، أمام كثير من (الموروثات الدينية والاجتماعية) التي أراها خاطئة أو بحاجة إلى إعادة نظر، والفضل يعود إلى هذه العصابات الإرهابية المجرمة، التي نقلتْ كثيرًا من السلبيات التي كنا نقرأها في بعض الكتب إلى الأرض والواقع، فأحدثتْ صدمات إيجابية عنيفة لعقول كثير من العرب والمسلمين.. ومن هذه الصدمات سيبدأ التغيير، أو لنقل بشكل أدق: من هذه الصدمات ستزيد سرعة التغيّرات والتحوّلات.
إننا بحاجة إلى توقف وتمعّن طويلين، وإعادة النظر ألف مرة ومرة، في كثير من موروثاتنا التي لم ينتبه الكثيرون في مجتمعاتنا العربية والإسلامية إلى بشاعتها وشناعتها وسلبياتها الضخمة الموغلة في التخلف والتطرف والرجعية والغباء واللاإنسانية والحمق والبلاهة، إلا بعد أن صوّرها «الدواعش» وأشباههم في تلك المشاهد المرعبة المتقنة على موقع اليوتيوب وغيره.. انظروا مثلا إلى سلسلة مقاطع (صليل الصوارم) التي بلغتْ مشاهداتها أرقامًا رهيبة في الانترنت، ثم ليسأل كلُّ واحد منّا نفسه هذا السؤال:
هل يشرّفني أن أكون من مجتمع أو من أمة تؤمن بمثل هذه الأفكار، وتؤيد مثل هذه الجرائم اللاأخلاقية القذرة الخارجة عن كل القيم والمبادئ والأعراف والقوانين الإنسانية الراقية السمحة الجميلة؟
إذا كانتْ إجابة الكثيرين كما أتوقع هي «لا»، فلنسأل أنفسنا سؤالا تاليًا للسؤال السابق ومبنيًا عليه، وهو: من أين استمدَّ هؤلاء الإرهابيون هذه الأفكار والقناعات والمعتقدات، ومن أين تغذتْ عقولهم على هذه الكمية الكبيرة من السموم الفكرية المنتنة؟
وإذا جاءت إجابة الكثيرين كما أتوقع أيضًا بالصورة التالية:
استمدوها وأخذوها وحفظوها من كثير من الكتب والمراجع التي تملأ مكتباتنا العربية والإسلامية.. إذا جاءتْ الإجابة بالصورة السابقة، فلا بد من طرح السؤال الأخير الخطير الكبير الذي كتبتُ كلَّ ما سبق لأصل إليه، وهو:
لماذا لا نعيد النظر إذن في تلك الموروثات السائدة بيننا؟ لماذا لا نصحح بعض كتبنا المتوارثة؟ لماذا لا نتراجع عن كثير من قناعاتنا الجمعية العربية الإسلامية المغلوطة المستفحلة المُعشّشة في الأذهان، التي ما زال كثير من العرب والمسلمين يتوارثونها ويؤيدونها ويثنون عليها بأجزل ألفاظ المديح والإطراء والإعجاب المبالغ فيها؟!
إننا بحاجة إلى منهج أو مناهج، ومذهب أو مذاهب فلسفية عقلانية جديدة، تنقذ هويتنا وشخصيتنا كمجتمعات عربية ومسلمة، وتحسّن -ولو قليلا- صورة وجهنا الذي أصبح قبيحًا في عيون كلِّ شعوب الأرض اليوم دون استثناء، بعد أن شاهد العالم بأسره كلَّ ما كان مدفوناً في كثير من كتبنا الصفراء الرجعية المتخلفة.. بعد أن شاهدوا كلَّ ذلك المدفون المكتوب بالأمس مصورًا مشاهدًا على مواقع الإعلام المختلفة اليوم.
إننا -بكل صراحة ووضوح- بحاجة ماسّة إلى (تجديد الإسلام)، وهذه الحاجة لا يمكن تحقيقها إلا بفلسفة إسلامية تجدّد كثيرًا في مجالات عدّة، أخلاقية وعقدية وفقهية ومعاملاتية... ولا تلتفتُ في الوقت نفسه إلى معارضات المتقوقعين في جحورهم، الذين يريدون من المسلم دائمًا أن يعود إلى الخلف، وأن يبتعد عن مسايرة العصر؛ لأن الالتفات لآرائهم يعني التوقف والجمود، وطريق التوقف والجمود هو طريق (الموت البطيء) في نظري لأي فكر؛ ولذلك قد يعجز الفكر الإسلامي يومًا عن التأثير والمشاركة، إن لم يسعفه المؤهلون للفلسفة من أبنائه، بضخ دماء عقلانية جديدة متسامحة مسالمة متعايشة متوازنة، تطيل عمره، وتجعله قادرًا على مجاراة الأفكار الجميلة المنتشرة اليوم في العالم، ورفع رأسه إذا وقف بين الرؤوس الفكرية الجميلة الشامخة الكثيرة الأخرى على أرض الإنسانية الحديثة.. وما أصعب هذه المهمة.
النور يملأ الدنيا حولنا، فلماذا يصرُّ بعضنا على أن نبقى متقوقعين في جحور الظلام والتشدد والانغلاق والاختناق؟
لقد آن أوان الانعتاق، فلماذا يصرُّ بعضنا على التمسك بأساليبهم المتطرفة الإقصائية الموغلة -على سبيل المثال- في إساءة الظن وزرع الشكوك والكراهية وإلغاء الآخر ورفضه وإرهابه والمصادمة معه؟!
لماذا يصرّون على النظر إلى الحياة وإلى غيرهم من البشر من أبراجهم العاجية، غير آبهين بالتحوّلات الكبرى التي تحدث.. ألا يرون اقتراب شموس الحرية والتنوير التي كنا نراها قادمة من بعيد؟ ألا يرون شعاعها قويًا وقريبًا جدًا منّا، فلماذا لا يساهمون معنا؟ لماذا لا نساهم جميعًا في دفع مركبتنا العربية بكلِّ ما نملكه من قوة للتعجيل بخروجها من النفق المظلم الذي طال اختناقنا بداخله؟!
إن إصرار البعض منّا على الاستمرار في الأساليب المتعالية الرجعية المتخلّفة المتدعشنة الإقصائية، أثناء تعاملهم مع الآخرين، لن يزيد شعوبَ الأرض إلا نفورًا منهم، وبعداً عنهم، ورفضًا لهم، وحقدًا عليهم.. وقد ينتهي بهم كلُّ ذلك، بل سينتهي بهم حتمًا إلى حصر أنفسهم في زاوية ضيقة يموتون فيها هم ومنظومتهم الفكرية المتطرفة، التي أصبحتْ كرجلٍ مسنٍ عاجزٍ يرقد على فراش موته منتظراً سكراته وساعة الرحيل، بعد أن عاثتْ الأمراضُ الفتاكة في جسده المنهك المستسلم المهزوم المأزوم الضعيف.
وائل القاسم - الرياض