لماذا ينقرُ الشاعر على النوافذ كل ليلة، ويقفزُ على الأسوارِ كل عصر، وكلّ صبحٍ يكسرُ الحديدَ والقيود؟!
ولماذا يغمُرُنا كلما أمطرتْ أو أقفرتْ، كلما تأوهت نخلة أو ناحت ورقاء، كلما انتحرتْ على السِّيف موجة، أو ضاق على النوارس والعين الأفق أو اتسع؟!
لماذا الشعر كلما حاورتنا أو حاكمتنا الأوطان، وكلما حاصرتنا الأوجاعُ والأحزان، ونأى عنّا وعنها الأهل والأصحاب والخلان، وأُفردنا إفراد البعير المُعبَّد؟!
لماذا الشعر كلَّما ضاعت الحدود، واشتدت القيود، وارتخت السواعد؟!
وكلما ازدادت الفتن، وتكالبت المحن، وضاقت المدن!
لماذا هو إمّا ماتت القرى، وتاهت الذرى، ومادَت الأهواء بالورى؟!
ولماذا هو كلما استطال النخيل، وتورَّد التفاح، وتوهج البرتقال، وانتشى الرازقيُّ، وانتعش النعناع والريحانُ، وخجِل الوردُ، ومال النرجس ذات اليمين وذات الشمال؟!
لماذا الشعر الطارقُ البارقُ، السارق الحاذقُ، الكاذبُ الصادق، المتردِّد الواثق، الكسير الباشقُ، النّزْر، الدافق، الباسقُ، الرائقُ.. الفردُ الجمعُ، القاطع، الرائع الأروع بين الآداب؟!
لماذا هو في صوت الناعي، وصرخة الميلاد، ونوح الباكي، وشكوى الشاكي، وترنم الشادي؟!
لماذا هو في نشوة الحب، ولوعة الصبِّ، والوصل والصدُّ، والتوق والشوق، والحرق والوجد والكمد؟!
لماذا هو بالتحديد الذي يدق علينا الباب، باب الذاكرة، كلما انفرجت، أو ادلهمت، وليست القصة، أو الرواية، أو المسرحية، أو اللوحة، أو السيرة؟!
لماذا المعلقات؟!
ولماذا الشعر الجاهلي، والإسلامي، والأموي، والعباسي، والأندلسي، القديم والحديث، الغامض والواضح، العفيف والفاضح؟!
لماذا القصيد، ولماذا بيت القصيد؟!
لماذا هوميروس، وطاغور، وحكمت، ورامبو، وبودلير، وبوشكين، وشكسبير، وبريفير، ونيرودا، وريتسوس؟!
ولماذا المتنبي والمعري وأبو تمام وجرير، والجواهري، والبردوني، والسيَّاب، والشابي، وأبو ماضي، والخوري، ومُظفر، ونزار، ودرويش، وسعدي، وأمل، ويوسف الصائغ، وعبدالرزاق عبد الواحد، والقصيبي ومسافر؟
لقد أبدع الإنسان ما أبدع، ولكن لماذا الشعر، لماذا هذا الكائن بالذات الذي يتفرد بالباب والنوافذ والقلب والذاكرة؟!
وما الذي يريده منا هذا الطارق السارق الذي لا يني؟!.
وما الذي يطلقُ في الروح شرارة الشعر؟!
الفقر والجوع والظلم والحاجة، أم الغنى والعظمة والقوة والحكم والاكتفاء؟
وما الذي يريده الشاعر الذي يقفُ على البدايات والنهايات ومفترق الطرقات، ويضع عنقه على حد السيف أو السكين أو المقصلة؟!
هل هو الخلود؟
أم هو خير البشرية عبر الرسائل السامية كالحق والخير والحب والجمال والحرية والعدالة؟
أم هو سلم الحروف نحو الجاه والوجاهة؟
هل يختصر المتنبي لنا بعض هذا:
وَمَا الدّهْرُ إلاّ مِنْ رُواةِ قَصائِدي
إذا قُلتُ شِعراً أصْبَحَ الدّهرُ مُنشِدَا.
فَسَارَ بهِ مَنْ لا يَسيرُ مُشَمِّراً
وَغَنّى بهِ مَنْ لا يُغَنّي مُغَرِّدَا
أجِزْني إذا أُنْشِدْتَ شِعراً فإنّمَا
بشِعري أتَاكَ المادِحونَ مُرَدَّدَا
وَدَعْ كلّ صَوْتٍ غَيرَ صَوْتي فإنّني
أنَا الطّائِرُ المَحْكِيُّ وَالآخَرُ الصّدَى.
وهل لدى الجاهلي المتفرّد طرفة بن العبد بعد أعمق:
وما زال تشرابي الخمور ولذَّتي
وبَيعي وإنفاقي طَريفي ومُتلَدي
إلى أن تَحامَتني العَشيرة كلُّها،
وأُفرِدتُ إفرادَ البَعيرِ المُعَبَّدِ
رأيتُ بني غبراءَ لا يُنكِرونَني،
ولا أهلُ هذاكَ الطرف الممدَّد
ألا أيُّهذا اللائمي أحضرَ الوغى
وأن أشهدَ اللذّات هل أنتَ مُخلِدي؟
فإن كنتَ لا تستطيع دفع منيَّتي
فدعني أبادرها بما ملكتْ يدي.
أم نجد إجابتنا لدى شاعر اليمن المجدد عبد الله البردوني؟!
وحدي مع الشعر هزّتني عواطفه
فرقّصت عطفه النشوان رنّاتي
وشفّ لي خافي الدنيا وألهمني
سحر الجمال وأسرار الجلالاتِ
وهبّت للشعر إحساسي وعاطفتي
وذكرياتي وترنيمي وأنّاتي
فهو ابتسامي ودمعي و هو تسليتي
وفرحتي وهو آلامي ولذّاتي
يفنى الفنا وأنا والشعر أغنية
على فمِ الخلد يا رغم الفنا العاتي
أحيا مع الشعر يشدو بي وأنشده
والخلد غاياتُه القصوى وغاياتي
أو هو ما حاولتُ غناءه هنا قبل عمْرٍ عندما تمتزج المرأة بالوطن، والوطن بالمرأة؟!:.......
وأني أنا المجنونُ ما جُنّ شاعـرٌ
وأني أنا المجنونُ ما أسرفتْ ليْلى*
وأنّي نذرتُ الشعرَ حرفي بحرفها
فما أنجبَ الحرفان إلا لها مثْلا
خليليّ ما نامت عيوني على الطّوى
ولا هبَطتْ صعباً ولا صعَدتْ سهْلا
ولكنها تبكي وما كلّ من بكى
بباكٍ وإنْ أبكى وإنْ عينه ثكلى
لنخلٍ على العلّات مُجترِحٍ علا
وكرمٍ على الزلّاتِ مُعتَصَرٍ نُبْلا
بأرض ٍ ينام الناس فيها وساهرٌ
على عريها خو فاً يدثّر ما اعتلّا
ويحلم أنّ الغيم يهمى لهــمّها
ويحلم أن الغيث قد يُرجع الرّحلا
فكلٌّ لهُ بيتٌ وبيتٌ على غدٍ
وكلٌ بها كلٌ فما استمتعتْ كلاً
وما جُنّت الألوانُ بل جُنّت الدّنى
إنْ استقبلت عينٌ سوى حزنها كحْلا.
* وأني معطوفةٌ على ما قبلها في قصيدة المرثية الرابعة.
- الرياض