هل مرّ بتاريخ العرب فترة تشبه ما هم عليه منذ مطلع الألفية الثالثة؛ وهل نسي العرب ثقافتهم، أم كوّنوا ثقافة جديدة تتناسب مع أوضاعهم في هذه الحقبة؟ ما يمكن قوله إنهم لم يعودوا أمة بأي شكل من الأشكال. ليس ذلك التصور نابعاً من حالة فردية، أو رؤية سوداء لبعض جوانب لم تتحقق في حياتهم المعاصرة؛ بل هي استقراء لوضع أصبح راسخاً من بعد تراكم نقاط تأكيده في فترات زمنية قصيرة.
كانت فترات الزهو العربي تتماهى مع شوفينية قومية برزت في تعاملهم مع الأمصار التي تولوا فيها القيادة خلال أزمنة التوسع، التي جعلت مناطق نفوذهم تترامى أطرافها إلى أضعاف حجم شبه الجزيرة التي يسكنونها. فبدأوا يقسمون البشر إلى عرب وموالٍ، وأصبحت المرأة بين حرة وجارية، والعرب أنفسهم بين عدنانيين ويمانيين. ودارت الأيام في عصور الإسلام اللاحقة، فأصبح العرق العربي تحت الاضطهاد، بعد أن كان يحتقر القوميات الأخرى. ولم يتجاوزوا القرن الرابع الهجري إلا وقد أصبح العربي مواطناً من الدرجة الثانية في كل بلد من بلدان الخلافة الإسلامية، أو الإمارات التي تتبع إلى دار الخلافة، حتى وإن كان بالاسم فقط.
أما في العصور الوسطى، فلم يبق لهم أي شيء، لا الإمارة ولا الجاه والنسب. بل إن الفروسية وسمات الارستقراطية، التي كان يتميز بها العرب في الفترات الإسلامية الأولى، قد انتقلت إلى الأتراك والكرد والشركس والألبان وقوميات أخرى؛ فأصبحوا هم من يرسم سمات البطولة ومعايير الطبقة العليا. كما أصبحت مصطلحات لغاتهم هي المسيطرة على ثقافة العرب، الذين أصبحوا يعيشون في كنفهم. وسارت الأمور على هذا المنوال إلى أن أتى عصر النهضة العربية (كما يُسمى في التاريخ الحديث)، وحتى هذه النهضة كانت تحت قيادات أجنبية في بلدان القاطرة العربية آنذاك (مصر والشام). وما إن استلم العرب الحكم مباشرة مع الثورة المصرية، حتى تدهورت الأوضاع مرة أخرى إلى ما هو أسوأ من فترات ما قبل النهضة العربية. ولم تكن أحوالهم أحسن في حروبهم العبثية ومغامراتهم خلال نصف قرن من التجارب الفاشلة، التي انتقلت فيها بعض أقطارهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن الشيوعية إلى الرأسمالية ومن العلمانية إلى الحكم الإسلامي، لكن كل تجربة كانت أتعس من سابقتها.
ولم تكن الأحداث التي عصفت بهم خلال عقدين من الزمان هينة في أثرها، لتغيّر البنى السابقة، التي كانت هي محور الشد والإرخاء في المسار الطبيعي لحياة الأمم. فقد كان الناس يشتكون من عدم التقارب والتوحد في فترة من فترات إحساس الشعوب بمدى قوة الوشائج، التي تربط تلك المكونات، وضعف أداء الإدارات المتعاقبة في كل قطر عربي. وهكذا كانت ردات الفعل دائماً قوية إزاء كل فشل أو قصور كبير في تحقيق تلك الآمال.
فهل تغير شيء من إيقاع المجتمعات العربية في فترات الركود، ثم في فترات الإخفاقات، وأخيراً في فترات النكوص حتى عن أبسط المشتركات في الحس القومي والحضاري والعرقي؟ لا أود أن أخوض فيما أفرزته حالات الفشل في التجارب المذكورة أعلاه، ولا عن قصور الثقافة المشغولة في مجملها بمخاصمة الماضي، ومحاولات تبين نقطة الانطلاق الصحيحة في ذلك الماضي؛ لكن ما يثير الاستغراب، هو عدم خوض المحللين الاستراتيجيين كما يسمونهم في تشخيص تلك الحالات المفزعة، وكون تركيزهم بالكامل على نقاط في سطح هذه المشكلات الجذرية، التي يبدو أن كل مسترزق أو متسلق لا يود أن يمس جدرانها بسوء. وما دامت الحال كذلك، فإننا لن نقول سوى: كل دورة زمانية والأمة بخير!
- الرياض