هل كانت نشأة وتطور رسم حروف اللغات تطوراً اعتباطياً عشوائياً، أم كان يسير باتجاه نظام رسم للحروف محكم ومتطور، وهو نظام رسم الحرف العربي؟
الإجابة على هذا السؤال لها ارتباط وثيق بقضية الدلالة القياسية المستنبطة من صورة أو رسم الحرف، كما رأينا في مثال الدلالة المستنبطة من رسم حرف (ا) التي تدور حول دلالة التوحيد وتنويعاتها.
ورد في موقع ويكبيديا عن تاريخ الأبجدية العربية ما يلي: «يظهر تاريخ الأبجدية العربية بأن أبجديتها مرت بفترات نمو منذ بداية نشأتها. والاعتقاد السائد بأنها انبثقت من النبطية (وربما هي إحدى فروع السريانية) القادمة من الآرامية، وهي من السلالة الأبجدية الفينيقية، وقد ظهر منها الأبجدية العبرية والأبجدية الإغريقية، ومن الإغريقية ظهرت الأبجديات السريالية والرومانية وغيرها، هناك أيضاً كانت توجد الأبجدية العربية الجنوبية أو خط المسند والتي كانت تستخدم بكثرة في جنوب الجزيرة العربية، وظهرت على النقوش الحميرية وقبلها السبئية في اليمن، ويعتقد أيضاً أنها اندثرت مع بداية ظهور الأبجدية النبطية».
وقد ورد في كتاب الفهرست لابن النديم عدد من الحكايات حول أصل وضع اللغة والحروف، ومن هذه الحكايات ما روي عن ابن عباس أنه قال: «أول من كتب بالعربية ثلاثة رجال من بولان، وهي قبيلة سكنوا الأنبار. وأنهم اجتمعوا فوضعوا حروفاً مقطعة وموصولة. وهم مرار بن مرة وأسلم بن سدرة وعامر بن جدرة، ويقال: مروة وجدلة. فأما مرار فوضع الصور، وأما أسلم ففصل ووصل، وأما عامر فوضع الإعجام. وسئل أهل الحيرة: ممن أخذتم العربي؟ فقالوا: من أهل الأنبار».
هذه الحكاية تطرح السؤال التالي وهو: ما هي القاعدة اللغوية أو المعرفية التي انطلق منها واضعو صور (أو رسم) الحروف العربية؟
وأهمية السؤال تكمن في أن العديد من هذه الحروف يتشابه تشابهاً كبيراً إلى حد ظهرت فيه الحاجة إلى وضع علامات للتفريق بين صور تلك الحروف، إما في زمن وضع الصور أو في مرحلة لاحقة.
والمرحلة اللاحقة هي التطور الذي حدث على يد أبي الأسود الدؤلي بوضع نقط الحركات للحروف، ثم تلميذاه نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر اللذان جاءا بتنقيط الإعجام، ثم جاء الخليل بن أحمد ليكمل الحكاية برسم الحركات بالفتحة والضمة والكسرة إلى أن وصلت الحروف العربية إلى شكلها الحالي.
وما يهم في هذه المرحلة هو التطور الذي حدث على يد نصر بن عاصم في وضع تنقيط الإعجام للتفريق بين شكل الحروف (ب، ت، ث، ج، خ، ذ، ز، ش، ض، ظ، غ، ف، ق، ن، ي).
وهذه الأهمية تنبع من أن تنقيط الإعجام له صلة وثيقة في بنائية الحرف العربي من حيث الدلالة الشكلية البنائية القياسية، أما تنقيط الحركات أو ما يعرف بتنقيط الإعراب فهو يخص علم النحو، وهو مرحلة أخرى مختلفة في بناء معاني الكلمات وليس في صناعة الدلالات الشكلية البنائية القياسية من رسم الحرف.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن عند استعراض تاريخ تطور رسم الحرف العربي هو: هل كان نصر بن عاصم وزميله وهما يقومان بتنقيط الإعجام للحروف يدركان ما قد يكون لهذه النقط من دلالات أساسية أو إضافية تضاف إلى دلالة رسم الحرف أم أن الغرض كان ارتجالياً للتفريق بين الحروف المتشابهة في رسمها فقط؟
إننا ونحن ندرك الآن الدلالة الشكلية القياسية لحرف ألف (ا) وارتباط دلالته بشكل أو رسم الحرف وارتباط ذلك في كلمات اشتقت من اسم الحرف ورسمه؛ فإن السؤال الذي يجب طرحه الآن هو: «هل يختفي وراء شكل أو رسم الحروف العربية المعاصر نظام محكم فريد للكتابة الدلالية (القياسية) اللسانية»؟
السؤال بصيغة أخرى: هل يمكن تطوير نظام رسم حروف اللغة العربية للكشف عن قدرات دلالية جديدة لرسم الحرف العربي؟
الإجابة على هذه الأسئلة يفتح المجال أمام دراسة مستقبل رسم الحرف العربي انطلاقاً من واقع الرسم المعاصر بدلاً من دراسة تاريخية ذلك الرسم التي يشوبها كثير من الغموض والمجهول، وقد يصل الباحث إلى قناعة عجيبة هي أنه إذا كانت معظم صور أو رسومات الحروف العربية تظهر هذا التشابه الكبير فيما بينها؛ فإن ذلك قد يشير إلى حقيقة لسانية فريدة، وهي أن هذه الصور أو الرسومات قد انبثقت من صورة واحدة أو رسم واحد، يمثل الصورة الأبوية التي تناسلت منها بقية صور الحروف لتحمل بطريقة أو بأخرى تلك الجينات اللسانية القياسية الأبوية الواحدة في صورة كل حرف عربي.
هذا الكلام يعيدني إلى ما قد طرحه والدي/ عبدالله نور في كتابه (نون القرآن الكريم/ دلالات الحروف العربية) وهو قوله: «إن حرف نون (ن) هو أصل الحروف، وأن كل حرف من حروف اللغة العربية ما هو إلا حرف (ن) بدلالة تحتية أو جانبية إضافية».
وفي نظري أن هذا القول يمثل القانون الثاني من قوانين النظرية البنائية الجديدة، ويمكن تشبيه هذا الأمر بكوكب القمر الذي هو آية كونية من آيات الله حيث يظهر له (28) منزلاً، وكل منزل يشكل رسماً أو صورة أو شكلاً، مع أن القمر في حقيقته شيء واحد، وكل صورة للقمر ما هي إلا نتيجة تموضع حركة ثلاثة أجرام سماوية هي الشمس والأرض والقمر، بمعنى أن الحروف الثمانية والعشرين ما هي إلا وضعيات مختلفة لتكوينات مختلفة لحرف (ن) ، وإذا اعتبرنا أن عدد حروف اللغة العربية هو 29 حرفاً، فإن ذلك لا يخرجنا من مثال صور القمر التي تبلغ أيضاً 29 صورة على اعتبار الهمزة حرفاً من الحروف الهجائية؛ ولذلك أستطيع القول إن العلامة اللسانية القياسية المرجعية المتمثلة في حرف (ن) قد تكون هي المفتاح المطلوب لاكتشاف نظام رسم الحرف العربي، أو بمعنى أدق مستقبل رسم الحرف العربي، فكيف ورد ذكر حرف (ن) كحرف من الحروف الرامزة أو المقطعة التي وردت في صدر بعض سور القرآن الكريم مما يظهر فرادة وتميز هذا الحرف؟
ورد ذكر حرف (ن) كحرف مقطع في القرآن الكريم في سورة القلم، وإذا ستعرضنا كيف وردت الحروف الرامزة أو المقطعة في فواتح بعض السور نكتشف ما يلي:
أولاً- بلغ عدد الحروف الرامزة أو المقطعة في أوائل بعض السور (14) حرفاً في (29) سورة من سور القرآن الكريم، ومن ضمن هذه الحروف حرف (ن)، وقد ورد حرف نون في سورة القلم في قول الله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}، وهذه الآية هي أول الآيات التي ورد فيها حرف مقطع من ناحية تاريخ النزول، أي أن حرف نون هو أول الحروف المقطعة نزولاً.
ثانياً- ورد ذكر حرف (ن) مرة واحدة (منفرداً) في سورة القلم ولم يتكرر ذكره في باقي السور التسع والعشرين، وهو الحرف الوحيد من بين الحروف الأربعة عشر الذي تفرد بهذه الخاصية.
ثالثاً- حرف (ن) هو الحرف الوحيد من بين الحروف الأربعة عشر الذي ربط ذكره بذكر القلم في قول الله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}؛ بينما ورد ذكر بقية الحروف في سور مختلفة مرتبطاً بذكر الكتاب أو القرآن؛ وهذا فيه إشارة مهمة لتميز حرف (ن) لأن القلم هو أداة الكتابة، أما الكتاب فهو مكان وقوع وحفظ الكتابة.
رابعاً- إذا درسنا بناء القرآن من حيث أرقام تسلسل السور في القرآن الكريم وتوزيعها وعددها 114 سورة، فإن سورة القلم تأتي (لوحدها) في النصف الأخير من سور القرآن الذي يمثل 57 سورة الأخيرة في مقابل بقية الحروف التي وردت في النصف الأول من تسلسل الحروف الذي يمثل 57 سورة الأولى من القرآن الكريم.
إن في هذه الملاحظات الأربع إشارات قرآنية واضحة إلى العلاقات الدلالية العميقة التي تدل على فرادة حرف نون وعلاقته بنص القرآن الكريم، وأن رسم الحرف له علاقات قياسية بنص القرآن.
إنه من المدهش إذا اعتبرنا أن عدد حروف الهجاء (29) حرفاً واعتبرنا حرف (ن) هو أصل الحروف أن نجد عدد الحروف التي ورد فيها التنقيط هو (14) حرفاً، أي نصف عدد الحروف العربية الهجائية، وهي الحروف (ب، ت، ث، ج،خ، ذ، ز، ش، ض، ظ، غ، ف، ق، ي)، وعدد بقية الحروف الأخرى التي ليس فيها تنقيط هو (14) حرفاً؛ وبذلك فإن تنقيط الإعجام لم يكن مصادفة تاريخية عشوائية بل يشير إلى دلالة بنائية تخص بناء وتركيب الحروف العربية، وبذلك أيضاً يكون حرف (ن) في رسمه الذي يشمل سمات العلامة اللسانية المرجعية الرئيسة، وهي النقطة والمنحنى الدائري الذي تتشكل منه صور بقية حروف اللغة العربية، هو القاسم أو الجامع المشترك بين كل الحروف العربية.
إن وجود علاقات دلالية (عميقة) قياسية للحروف الرامزة أو المقطعة الواردة في أوائل بعض سور القرآن ضمن السور التي وردت فيها يمكن أن يدعم البحث عن نظام محكم للكتابة أو لرسم الحرف العربي مما قد يضعنا أمام مستقبل جديد للنظرية اللسانية الجديدة، وإذا أخذنا بالقانون الثاني للنظرية البنائية الجديدة، وهو: أن حرف (ن) هو أصل الحروف، فإنه يمكن القول إن العلامة اللسانية القياسية المرجعية المتمثلة في حرف (ن) قد تكون هي المفتاح المطلوب لاكتشاف دلالات نظام رسم حروف اللسان العربي المبين، وإذا كان شكل كل حرف ليس مجرد دلالة صائتة؛ بل يزيد على ذلك بأنه دلالة شكلية بنائية كاملة؛ فإن شكل أو رسم حرف (ن) حيث يمثل نصف دائرة هو من أكمل الأشكال، وتكون نقطة الدائرة ليست للإعجام فقط بل لها دلالة بنائية مركزية، ويمكن أن تثري هذه النقطة المركزية الدلالات المتعددة لحرف (ن) في تحولاتها المختلفة.
والله تعالى أعلم.
- الرياض
abdulalnour@hotmail.com