يخوض المبدع تجربةً خاصة، يعيش معها بتفاصيلها، ويلحظ كلَّ خيطٍ في نسيجها، ويعاني في كلِّ لحظةٍ من لحظاتها، فيثور شعوره، وتنتفض أحاسيسه، وتتوقَّد مشاعره، فيُنتج من وراء ذلك كله نصَّاً يُجسِّد هذه المعاناة، ويصوِّر تلك المشاعر والأحاسيس، فيُمتع ويُبدع، ويُروي عطش المتلقي الذي يتغيَّا من هذه التجارب الإبداعية لغةً على مستوى عالٍ من الجودة، وأسلوباً متقناً جزلاً، غير مستغنٍ عن صورٍ أبدع الأديب توظيفها لرسم نصِّه المتميز.
وهنا يأتي دور الناقد الذي يفترض أن تكون مهمته الأولى الكشف عن مواطن الجمال ومواضع الضعف في النصِّ الإبداعي، والأخذ بيد القارئ إلى استيعاب منطوقه ومفهومه، وإزاحة الستار عن خفاياه وأسراره التي قد تفوت على غير متخصِّصٍ في قراءة الأعمال الإبداعية، أو غير متمكِّنٍ من استيعاب اللغة الأدبية، وما تتميَّز به من انزياحاتٍ وطريقةٍ في الصياغة والنظم والتعبير، حتى يمكن للمتلقِّي تذوُّق النصِّ والقدرة على الحكم عليه.
وتأتي الإشكالية حين يفقد المبدع إبداعه، أو قل: لا يملك ما يؤهله لأن يكون مبدعاً بحق، حيث يكون لديه رغبةٌ شديدةٌ في مزاحمة المبدعين الحقيقيين الذين يعون تماماً معنى أن تكون أديباً تنتج الإبداع الفني، ويدركون المسؤولية الملقاة على عاتقهم حين يصوغون ألفاظهم وعباراتهم، ويرسمون معاناتهم وصورهم، وحين لا يجد في نفسه القدرة على خلق فضاءٍ إبداعيٍّ وإنشاء خطابٍ فنيٍّ مميزٍ ينتقل إلى مرحلةٍ خطيرة، يعبث فيها باللغة، ويشطح بالأسلوب، فيأتي بالخزعبلات المضحكة، ويدوِّن الهرطقات السخيفة، ويقدم إلى المتلقي إسناداتٍ وتراكيب لا علاقة بين ألفاظها في أيِّ لغةٍ من اللغات، إلى الدرجة التي تكاد تجزم فيها أنه وصلة مرحلةً متقدِّمةً من الإصابة بالهلوسة، أو أنه فقد ذاكرته وابتلي بنوع خطير من الزهايمر، فتشفق عليه، وترسل الدعوات إلى السماء لعل الله أن يمنَّ عليه بالشفاء، وهو في كلِّ ما يأتي به يظنُّ أنه يأتي بالفتوحات العظيمة في الأدب، ويتوقّع أنه يكتب نصوصاً عبقرية قد تجاوزت حدود الزمان والمكان، ويعتقد أنه يمتع القارئ ويدهشه بألفاظٍ ودلالاتٍ جديدةٍ واستثنائية.
والملاحظ أنَّ هذه الظاهرة بدأت تنتشر في الآونة الأخيرة في مشهدنا الثقافي بشكلٍ كبير، خاصَّةً بين من يدَّعي أنه من زمرة الأدباء والمثقفين، ويريد أن يكون له حضورٌ في المجال الإبداعي، أياً كان نوع هذا الحضور، المهم أن يُعرف عند المجتمع أنه مثقفٌ من الوزن الثقيل، وأنَّ لديه من اللغة والأسلوب والتصوير ما يجعله متربعاً على منصَّات الإبداع، ومتقلداً أرفع أوسمة التميز الأدبي والفني.
وينبغي أن ألفت الانتباه إلى أني لا أتحدث هنا عن المبدع ذي الإنتاج المتوسط فنياً، أو حتى صاحب الإنتاج الضعيف، لأنه على كل حال يحاول أن يسير وفق النظام اللغوي الصحيح، وينطلق من أساساتٍ سليمةٍ في النظم والتركيب، ويسعى جاهداً وفق إمكاناته اللغوية والفنية إلى التأثير في المتلقي بغية إقناعه وإمتاعه، غير متجاوزٍ في ذلك الأعراف الأدبية واللغوية، ومُقدِّماً ألفاظاً ودلالاتٍ واضحةَ المقاصد، أو فيها من الغموض الفني المقبول ما يُلبس النصَّ ثوباً قشيباً.
وأظنُّ أنَّ مجموعةً من الأسباب تتضافر لتقدِّم تفسيراً لوجود هذه الظاهرة وانتشارها، سأؤجِّل ذكرها في الجزء الثاني من هذه السطور، غير أني أنبه قبل هذا إلى أني لن أفصِّل في ذكرها؛ لأني أعتقد أنَّ كلَّ واحدٍ منها يحتاج إلى دراسةٍ وبحثٍ بصورةٍ مستقلة، وليس هذا مقامه، ولهذا سأوجز ما يمكنني إيجازه، إضافةً إلى أنَّ الأسباب التي سأذكرها ليست هي كل ما أدَّى إلى تفشي هذه الظاهرة، بل من المؤكد وجود غيرها، غير أني سأشير إلى ما هو حاضرٌ في الذهن منها، وهو الأشهر فيما أزعم.
- الرياض
omar1401@gmail.com