أين يكمن الخلل عندما تجد مبدعاً لا يختلف في منظومته الفكرية والسلوكية وتعاطيه مع القضايا وما يعترضه من مشكلات عن بعض العوام؟.. بل ربما فاقه بعض العوام وعياً وفهماً وإدراكاً.
هل يعود الأمر لكوننا غالباً مجتمعات استهلاكية نتعامل مع الثقافة كمعطى استهلاكي أكثر من محاولتنا تطويعها لخدمة وصياغة ذواتنا وتطوير مجتمعاتنا؟.. الأمر الذي يجعل خطابنا الثقافي غالباً غير فاعل بالدرجة التي نتطلع إليها على مستوى البناء والتغيير الإيجابي إما نتيجة صياغته المثالية المتعالية التي تجعله غير قابل للتبني والتطبيق أو بسبب هشاشة بنية هذا الخطاب وضعف تفعيل دور أدواته في محيطنا من مسرح وسينما وتشكيل وفنون لغوية.
حيث يؤكد الباحثون أن ليس ثمة ما هو أهم من اللغة في تطوير الثقافة الإنسانية وهي ثقافة أصبحت بالغة التعقيد في الزمن الحاضر غير أن اللغة في بعض مجتمعاتنا لا تمارس دورها المتوقع في التطوير على مستوى بعض متعاطيها من الأدباء مثلاً الذين يعيشون تناقض حاد بين الجمال والخير والحب الذي ينادي به منجزهم وبين سلوكياتهم المناقضة تماماً لذلك على أرض الواقع.
ويعيد البعض الأمر إلى الخلط بين مفهومي المثقف والأديب مثلاً ونظرتنا المثالية نحو الأخير وانتظارنا منه ما ننتظره من الأول وبالتالي صدمتنا مما يقع منه أحياناً من سلوكيات ومواقف لا تنسجم وطبيعة البناء التربوي والتنويري المفترض للآداب والفنون وانعكاساتها النفسية والروحية على الفرد والمجتمع.
وفي الفيلم التسجلي «يا لفتة النهر نحو الوراء»، الذي عرض مؤخراً في مهرجان بيت الشعر الذي أقيم في جمعية الثقافة والفنون في الدمام واستعرض مسيرة الشاعر محمد العلي بمناسبة تكريمه باعتباره شخصية المهرجان هذا العام، كانت للعلي وقفة قصيرة للتفريق بين مصطلحي المثقف والأديب.
لافتاً إلى اختلاف مفهوم المثقف عن مفهوم الأديب وكون المثقف يجب أن يكون ملتزما بمجتمعه وبإنسانيته وحريته وبكل ما من شأنه أن يخدم الإنسان مؤكداً بأن هذا هو المثقف أما الأديب أو العالم فلا يشترط أن يكون كذلك.
فيما يذهب المفكر الآيرلندي جورج برنارد شو إلى أن أي مثقف لا تكون له قضية أو رسالة وطنية أو إنسانية لا يعدو أن يكون مهرجاً. فالثقافة ليست عملاً استهلاكياً إنما هي في أعماقها تحمل خطاباً تغييري على مستوى الذات أولاً ومن ثم على مستوى المجتمع باعتبار أن المثقف يفترض أن يكون شخص مطلع ومدرك لشئون الحياة وآلية تسييرها.
فالمثقف هو الذي يستفيد من المعرفة في صياغة آرائه ومواقفه واتجاهاته وسلوكه ويعيش حالة من التماهي الداخلي والخارجي بعيداً عن الشوفينية، فيما يتخندق للأسف بعض الأدباء داخل اهتمامات أدبية خاصة عادة ما تكون ذاتية ولا يتجاوزونها إلى خدمة الغير والواقع الذي يحيط بهم. الأمر الذي ينتج عنه أدباء كثيراً ما يفتقرون إلى الثقافة التي هي بطبيعتها مفهوم أشمل وأوسع.
فالأديب يجيد الرسم بالكلمات كما يجيد التعبير عن مخزونه الشعوري ومعارفه وخبراته في الحياة فيما المثقف يعرف عادة ويفهم ما يدور حوله ويسعى إلى جانب وظيفتها المعرفية لأداء وظيفته اجتماعية أيضاً. ورغم أن الفعل الأدبي تعبير عن التجربة الشعورية التي يحسها صاحبها في المقام الأول غير أنها ليست في معزل عن التأثر والتأثير. ما يؤكد أهمية التعاطي الصحيح مع الأدب وكافة الفنون في حياتنا باعتبارها أدوات بناء للذات أولا وانعكاسات ذلك على بناء المجتمع لاحقاً إذ إن نهضة الفرد والمجتمع تنطلق من منطقة الشعور التي تحرّك الإنسان نحو أهدافه، ثم يأتي دور العقل في ذلك كطاقة بناء خلاقة.
فالنهضة الأوروبية الحديثة مثلاً انطلقت مقرونة بنهضة أدبية وفنية، حركت الأوروبيين باتجاه بناء حضارتهم المادية وفق التصوّر الأوروبي للكون والحياة. ومن هنا يرجح المرء أن الخلل الذي يعترضنا ويشي أحيانا بالتناقض الحاد بين روح الأديب وما يتناوله إبداعه لا يكمن في مشكلة خلط المصطلحات بقدر ما يكمن للأسف في عدم صدقية الأديب في التعبير عن حقيقة دواخله وتبنيه لنسيج فكري وعاطفي قد يكون عاجز عن تفكيكه وهضمه واستيعابه وتفعيله وهو ما يؤدي بالتالي إلى تعطيل مفاهيم جمالية ينادي بها من خلال منجزه وفي المقابل يناقضها فعله نتيجة تعاطي خاطئ مع الأدب كفن والتعامل معه باعتباره منتجاً استهلاكياً أو اتخاذه وسيلة نفعية للخروج ببعض المكتسبات وتضخيم للذات بما يرضي غرورها لا غير.
شمس علي - الدمام